حياة الحويك عطية
هي الستراتيجية نفسها، والميكانيكية التكتيكية تعيد نفسها. في السياسة وفي الاعلام.
النظام العالمي الجديد، وترجمته في منطقتنا: مرحلة اولى حتى احتلال العراق ومرحلة ثانية حتى عام 2006، ومرحلة ثالثة حتى "الثورات العربية" تنقسم بدورها الى قسمين: مرحلة انتهت بسيطرة الاطلسي على ليبيا، ومرحلة يدور الرهان الكبير فيها على سوريا.
الجزيرة، اسم لم يكن الا حاضرا وكبيرا في كل هذه المراحل، وختام كل منها، انعطافة مدروسة هادفة تترجم بتغيير المدير، من محمد جاسم العلي الى وضاح خنفر، وفي كل مرة حلقة لفيصل القاسم.
نشا النظام العالمي الجديد، وكان من ابرز ظواهره ما سمي "بمجتمع الاتصالات" الذي ترجم نفسه لدينا بظاهرة الفضائيات العربية. ظاهرة استطاعت محطة الجزيرة ان تتصدرها لاسباب كثيرة لخصها المختصون بشعار المحطة: الراي والراي الاخر، بمستوى المهنية العالي الذي ورثته من البي بي سي، وبالتمويل السخي الذي قدمته دولة قطر. لتاكيد وجودها ودورها على الخارطة الخليجية والعربية والعالمية.
في تركيبة المحطة ترجم ذلك باعتماد التعددية في تشكيل الفريق (بالنسبة للاقطار، للاديان، للطوائف، وللتيارات السياسية الموجودة على الساحة العربية) وفي تركيبة البرامج ترجم ذلك بالبرامج الحوارية وفي سبق التغطيات التي تلتزم الراي والراي الاخر.
كانت التيارت الاربعة: القومي، الاسلامي السني، والاسلامي الشيعي والليبرالي، ممثلة بالبرامج الاربعة الرئيسية واصحابها: فيصل القاسم، احمد منصور، غسان بن جدو وسامي حداد (الدرزي والسني والشيعي والمسيحي) في تركيبة لا مكان في تقسيرها للصدفة والعفوية، الا بقدر وجود العفوية في المظاهرات التي كانت تخرجها الانظمة العربية تاييدا لقراراتها.
كان هذا الجو ضروريا لاستقطاب الراي العام العربي، ونجح في ذلك بلا حدود. بل انه جعل هذا الراي العام ينسى بناء اكبر قاعدة اميركية في العالم على ارض العديد. ويتقبل ولو على مضض ظهور الاسرائيليين على شاشة المحطة الاكثر انتشارا في بيوت العرب. فقد فتحت له القناة ساحات الصراع السياسي الحر لاول مرة، وتركت له ان يعبر عن نفسه كما لم يعتد هو المكبوت منذ قرون. وانحازت الى قضاياه الوطنية الكبرى هو الملتزم رغم كل معاناته بهذه القضايا.
احتل العراق عام 2003، انطلاقا من قاعدة السيلية في قطر، وحان وقت الانتهاء من الخطاب القومي، لاسباب كثيرة من اهمها ارتباط هذا الخطاب جذريا بموضوعة السيادة، والحاجة الماسة للاميركي الى نزع الصفة القومية عن المقاومات، خاصة في العراق، المعد منصة لاطلاق الصراع المذهبي السني الشيعي، القادر وحده على شق العالم الاسلامي من الهند الى بيروت، وعلى زرع الفوضى الخلاقة التي تشكل عنوان الشرق الاوسط الجديد.
صدرت وول ستريت جورنال بافتتاحية تدين علاقة محمد جاسم العلي بصدام حسين، لكن صلب المقال لم يخصص للعلي الا فقرة، وهاجم كل الصحافيين الذين عارضو المحافظين الجدد، وركز في كل ما تبقى على ضرورة تغيير خط المحطة داعيا الامير الى تحمل مسؤوليته، وخرجت محطة الحرة بشريط سجل زيارة العلي الى عدي وصدام، وكانها تكشف سرا خطيرا، لم يكن في يوم من الايام سرا.
في ليلة واحدة، اقيل العلي، ومعه محمد السهلاوي ومدير الاخبار، دون وجود مدير جاهز. تنافست التيارات الموجودة، لتفاجا كلها باختيار وضاح خنفر المراسل الاسلامي. واثيرت التساؤلات الكثيرة حول الاختيار.
مع وضاح راحت تتضح عملية اسلمة خطاب المحطة ونهجها وتركيبتها، وبدا كاننا ندخل في خطاب عولمي اسلامي يسير جنبا الى جنب مع الخطاب العولمي الاميركي. خطاب ساهم بشكل قوي في اثارة التعرة المذهبية المطلوبة.
اندلعت الانتفاضات الشعبية العربية، وكان هذا الخطاب هو السائد والمهيمن على التغطية، الغيت كليا برامج الحوار، ووضعت على الرف شعار الراي والراي الاخر، ومعه المصداقية المهنية، وبت تشعر ان المذيعة تكاد تنقض على المشاهد من الشاشة، وان الجميع تعلم ان عليه الا يترك مشاركا يكمل جملته.
دولة قطر تورطت في ليبيا، ووراء ذلك قصة الغاز وصراعاته، عدا عن الاطلسي. وهذا الخطاب كان مفيدا مع التركيبة الليبية. اما الان وقد انتهت الامور هناك، فان الرهان بات على سوريا، وفي سوريا اثبتت الاحداث، ان الخطاب الاسلامي المتشدد، يدفع جميع الاقليات الى الوقوف الى جانب النظام، او الى المطالبة باصلاحات علمانية، كما يعزز موقف رفض التدخل الاجنبي. اذا فالحاجة عادت تتطلب تعددية في التركيبة ضمن فريق القناة، وعودة البرامج الحوارية، والوجوه القديمة.
ويكيليكس تتكفل هذه المرة عام 2011 بدور الحرة وول ستريت جورنال عام 2003، لتتشكل الحجة، ويقال خنفر وجاب الله، ومن ثم يعود القاسم وحداد، وربما غدا غيرهم، ولتكون اول حلقات فيصل القاسم عن سوريا، كما كانت اول حلقاته عام 1996 عن مجلس التعاون الخليجي مع فارق ان القاسم لم ياتنا هذه المرة بشخصيتين ثقيلتي الوزن كما فعل يومها، بل بشاب سوري " ثائر" خارج لتوه من بيير كاردان، عبورا بحلاق يتقن التسريح على طريقة المغنين، ويعتمد اسلوبا في الخطاب بات معروفا تماما لاولئك الذين يتدربون مع اندومن ديموكراتي وميديا انجاجمنت تيم. اسلوب من خصائصه قول كلام معد مسبقا والتحدث بسرعة وبدون اعطاء فرصة للطرف الاخر للرد، ودون الرد على ما يقوله، واغراقه بالشتائم المكالة له ولمسؤوليه، وشخصنة الهجوم "انت" "زعيمك" "حراميك" الخ .اما في مقابله فمسؤول سوري ضعيف الحجة، وفقير بالحجج وبالوثائق وبالجدل السياسي. في حين يتولى المذيع دور فريق الاسناد للطرف الاول، دون اي التزام بدور المذيع المفترض.
قالها عزمي بشاره على شاشة الجزيرة نفسها: بعد سقوط طرابلس منتقدا اعلام المرحلة السابقة، لم يعد هناك حجة لهذا النوع من الاعلام، فلنعد الى اعلام متوازن.
غير ان المسألة اكبر من الاعلام، انها مسالة اعتماد ستراتيجة جديدة يحتاجها الوضع السوري ولم يكن يحتاجها الليبي.