كنا حذرنا في مقالات عديدة آخرها منذ بضعة ايام من ان المخططات الدولية التي تسوق لتسوية الازمة الحالية في الشام تؤسس لدولة تعددية طوائفية بغلاف ديمقراطي كما هو الوضع في لبنان والعراق. وان الصراع الغرائزي القائم بين داعمي النظام بحجة محاربة المؤامرة الخارجية والدفاع عن السيادة والأمن، وبين المعارضين المطالبين بالحرية وباسقاط النظام بأي ثمن ودون تهيئة البديل، وتغييب لغة العقل والتخطيط الاستراتيجي للمرحلة القادمة، ستؤدي حكماً الى نجاح المخططات الأجنيبة في استغلال هذا الصدام الاعمى والاصم. كما دعونا الى تغليب لغة العقل والتخطيط لانتقال تدريجي نحو الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة عبر اصلاحات وتغييرات جذرية وعميقة توفر على البلاد اراقة المزيد من الدماء العزيزة، حتى لو تنازلت المعارضة وقبلت بمرحلة انتقالية برئاسة الرئيس الحالي تنفذ هذه الاصلاحات والتغييرات من ضمن خطة زمنية محددة، وحتى لو تنازل النظام الحاكم وقبل بتنفيذ هذه الاصلاحات والتغييرات رغم انها تمس في العمق مصالح عدد من المتنفذين الحاليين واتباعهم. غير ان المغالين في التوتر الغرائزي في الطرفين هاجموا طرحنا وكل طرف صنفنا اننا نتعاطف مع خصمه!
واليوم نقرأ في الصحافة المحلية التحليلات والمعلومات التالية:
1- أدلى رئيس الوزراء القطري، وزير الخارجيّة الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني بتصريح حول سوريا "الشقيقة"، مشدّدا على أن "استقرارها مهم في العالم العربي"، داعيا إلى عدم نسيان خصوصيتها وموقعها وحدودها مع إسرائيل، ومؤكدا "أهميّة التزام سوريا جدولا زمنيّا للإصلاحات، ووقف حمّام الدم من أي فريق كان"
2- اعطى الرئيس الإيراني أحمدي نجاد حديثاً الى تلفزيون المنار يدعو فيه "الشعب والحكومة السوريّة إلى الجلوس بعضهم مع بعض للتوصّل إلى تفاهم في شأن الإصلاحات، وعدم السماح للغرب بالتدخل"...
3- أشار الرئيس بشار الأسد إلى أنّ "الدولة ماضية في مسيرة الإصلاح في خطوات ثابتة"، مشيرا إلى "أن تجاوز الأحداث في حاجة إلى تعاون الجميع، وإلى الكثير من العقل والحكمة، بدلا من الأخذ بالعواطف والانفعالات".
4- أعرب وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك، عن قناعة تكوّنت لديه، أنّ الاسد قد حدّد مصيره بنفسه. وقال: "إنّ الحديث عن إمكان إجراء تسوية مع الرئيس السوري، قد ولّى بالفعل، "لأنّ الاسد أنهى وظيفته، حتى ولو بقي ستة أشهر أخرى، إذ سيكون هناك شيء جديد، نحن لا نعرف ما هو، فتسارع سقوطه سيحدث أيضا نتيجة مواصلة استخدام للقوّة ونتيجة الضغط الذي يتراكم عليه"، لافتا إلى أنّ "لا أحد سيرسل جيشه، إلّا أنّ الضغط الدولي، وفي شكل رئيسي الضغط التركي والسعودي والبحريني ودول عربية أخرى، كلّها تضعف بشّار الأسد كثيراً".
5- تكشف بعض المصادر ان "تسوية" بدأت تُركب للوضع السوري بين واشنطن وبغداد وطهران وقطر وانقرة، لا تصب في مصلحة الاسد، ولكنها تأخذ في الاعتبار مجموعة سيناريوهات لما يمكن ان يكون عليه المستقبل السوري، منها بقاء النظام في صيغته الحالية مع تنفيذ الاصلاحات عبر حكومة تشارك فيها المعارضة ولكن في ظل رئيس لسوريا غير الاسد.
وذكرت المصادر في هذا السياق "ان الدول المعنية بالشأن السوري استبعدت كل السيناريوهات التي لحظت بقاء الاسد رئيسا لسوريا من دون صلاحيات على غرار ما هو قائم في العراق. وأكدت ان بعض السيناريوهات المتداولة يلحظ تنفيذ إتفاق "طائف سوري" لحل الازمة السورية، مستنسخ عن "اتفاق الطائف" اللبناني، او عن النموذج العراقي، بحيث يكون رئيس الجمهورية من الطائفة العلوية بلا صلاحيات تنفيذية مباشرة، وتناط السلطة التنفيذية بمجلس وزراء تتولى رئاسته شخصية سياسية سنية.
6- كشفت مصادر أخرى ان الدوحة تعمل على تسويق اقتراح لتسوية الازمة السورية هو في الواقع طبعة منقحة عن الاقتراح التركي الذي دعا الاسد الى تشكيل حكومة جديدة تشارك فيها المعارضة وتدير مرحلة انتقالية يتم خلالها اجراء انتخابات نيابية اولا ورئاسية لاحقا. ولكن هذه المبادرة القطرية اصطدمت بالرفض الايراني لأنها تلحظ طلبا من الاسد ان يتنحى، الامر الذي أخّر زيارة امير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني لطهران الى أمس بعدما كانت منتظرة مطلع الاسبوع الجاري.
اذاً المساعي العربية والاقليمية والدولية الحالية تسعى الى تسوية طوائفية على غرار النموذج اللبناني والعراقي، والخلاف هو على الرئيس العلوي المخلوع الصلاحيات، هل يبقى الرئيس الاسد أم يستبدل!
وهذا ما حذرنا منه ودعونا المعارضة والموالاة الى انتاج حل سوري لا عربي ولا اقليمي ولا دولي، يسعى الى المصالحة الوطنية والاصلاحات السريعة العميقة والجذرية لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية حديثة، كبديل عن الثنائية المطروحة حالياً: اما الحرب الاهلية المدمرة، واما السير بالتعددية الطوائفية المطروحة من الغرب، لتحويل كل محيط فلسطين الى برميل بارود معطل من الداخل بالاختلافات الطوائفية على الحصص والنفوذ وتقاسم مقدرات البلاد، وجاهز للانفجار عندما تدعو حاجة الخارج واسرائيل.
هل يعي الغرائزيون من اتباع النظام وحلفائه الذين يدعون محاربة المؤامرة الخارجية انهم ينفذون اجندتها عبر صم آذانهم عن مطالب الشعب واصرارهم على وجود مؤامرة خارجية تستهذف امن البلاد، بينما هم يدافعون عن مكتسبات النظام الاقلوي الامني لا اكثر، ويسيرون بشكل اعمى واصم باتجاه تحقيق خطة الغرب بتحويل النظام الى نظام تعددي طوائفي بغلاف ديمقراطي، لا يخدم سوى الغرب واسرائيل، سواء بقي الرئيس الاسد ام لا؟
وهل يعلم غلاة المعارضة الخارجية والمتطرفين في المعارضة الداخلية، ان اشتراكهم في السلطة في دولة التعددية الطوائفية، مع انه يرضي طموحاتهم، ويضفي شكلاً من اشكال الديمقراطية المزيفة على الحكم، انما هو خسارة لمطلب تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تستطيع النهوض بالبلاد، وغرق في مستنقعات الاصطراعات الداخلية البغيضة لتقاسم مقدرات البلاد بين ممثلي الطوائف والطوائفيين؟ ولبنان والعراق نموذجين قائمين على الديمقراضية والازدهار الموعودين من الغرب!
على المعارضة الوطنية في الداخل، وخاصة العلمانية منها، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي والاحزاب الشيوعية واليسارية والناصرية، والشخصيات العلمانية، ان لا تنغش في هذه المرحلة بشبق السلطة ولذة اسقاط النظام الحالي، وان تتجنب السير في ركاب المشروع الاميركي الذي يعد البلاد بالديمقراطية والازدهار بينما النتيجة الفعلية هي اعادة تشكيل السلطة بطريقة تشل البلاد بتوازنات ومحاصصات طوائفية واثنية لا تنتهي.
وعلى الرئيس الاسد وفريقه ان لا يكرروا الخطأ الذي ارتكبه النظام الشامي في لبنان يوم قبل بالسير بالطائف، لا بل نفنن على مدى خمسة عشر عاماً باللعب على التناقضات الطوائفية والمناطقية اللبنانية، واحتضن الطائفيين وضرب واهمل وشرد الوطنيين العلمانيين، إلا الازلام منهم، واسهم في تعطيل نهوض البلاد ووحدتها الحقيقية وفي امتصاص وهدر قدراتها وامكاناتها، الى ان اتى وقت انقلب السحر على الساحر وتحول الحلفاء والاصدقاء و"الشركاء" الطوائفيين الى اخصام ما تركوا موجة طائفية او تحريضية او دولية الا وركبوها.
ان المخرج "السوري" الوحيد من الأزمة، قبل وصول المبادرات العربية والدولية هو بالمبادرة الى سلة اصلاحات وتغييرات جذرية في القوانين تتوج بتعديلات دستورية سريعة باتجاه ترسيخ الدولة المدنية الحديثة، وتوسيع هامش الحريات والحياة السياسية الحقيقية، وتؤسس لمصالحة وطنية وانتخابات تشريعية ورئاسية قريبة على اساس القوانين الجديدة. وهذا يتطلب تنازلات عقلانية من طرفي النزاع، والا فـ"الطائف السوري" آتٍ، وعندها يصبح الامل ان لا يأتي على بحر من الدماء والدموع كما في لبنان، او تحت الحصار والاحتلال كما في العراق!
ميلاد السبعلي
ارجو ان لاكون قدجرحت مشاعر اي انسان بهذا الكلام
ردحذف