حسن حمادة
ورقة عمل مقدمة ضمن ندوة في مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت
يا له من سؤالٍ مرعب. الحياء يحول دون سماح كاتب هذه السطور لنفسه بأن ينظر في الأزمة السورية، فيتصوّر حلولاً، أو ينصح باعتماد حلولٍ، فيما ينطبق عليه القول المأثور: "طبيب يداوي الناس وهو عليل". فَمَن كان نظام التفرقة العنصرية نظامه، أبارتايد على قاعدة طائفيةٍ – مذهبية، لا يحق له أن يقترح على الآخرين نظاماً، أو ان يظن نفسه، ولو للحظة، أنه يمتلك الأهلية السياسية أو الأخلاقية لإرشاد الآخرين. لكنها الجغرافيا، صاحبة الحكم المطلق، والحكمة الثابتة، قاعدة القياس، ومعيار الحقيقة، تجعل من الشقيقين التوأم، لبنان وسورية، متكاملين عضوياً، ترتد أحوال كلاٍُّ منهما على الآخر، بإيجابياتها وسلبياتها، فهما يشكلان حوضاً استراتيجياً واحداً، من المستحيل تفكيك أواصره، وما أكثرها.
فبما أنها الجغرافيا، باسمها أستميحُ الحياء عذراً لأحاول الإجابة عن السؤال المطروح، سورية إلى أين أو "لبنان إلى أين"...؟ مستقوياً باحترام بموجبات المبدأ القائل: "من سلامة الإنسان قلة حفظه لعيوب غيره وعنايته بإصلاح عيوبه"..
فمن داخل الحصار المفروض علينا من المعتقلات الطائفية – المذهبية، وعمودها الفقري ثقافة الكراهية للآخر، تنطلق محاولة الإجابة على السؤال، بعد الإقرار للأستاذ ميشال كيلو، الأديب والمفكر والمكافح الديمقراطي المرموق، بأحقيته في تقديم الصورة التي يجدها الأقرب إلى الواقع القائم، وتشخيص خلفية الأزمة العاصفة بالجمهورية العربية السورية.
الحوار الناجح أو... الكارثة.
1 ـ ربمّا كانت سورية، ومن خلفها لبنان، ذاهبة إلى الكارثة، بسبب تعطلّ الحوار الداخلي الواسع، لعدم اكتمال عقد المحاورين من بين القوى، والاتجاهات، والكتل، والفعاليات، التي يعوّل عليها للتوصل مع ممثلي النظام الحالي إلى مشروع متكاملٍ للإصلاح بدأت ملامحه الأولية، أقول الأولية، بالظهور مع إعلان الرئيس السوري بكل صراحة عن عزمه على تحقيق هذه الإصلاحات وإقراره لبعضٍ منها، وخصوصاً ما له صلة بالتعددية السياسية وإنهاء نظام الحزب القائد، أو ما له صلة بقوانين الطوارئ، كبداية للتغيير الشامل، وهي مشاريع إذا ما قدر لها أن تدخل حيز التطبيق، في الواقع العملي، سوف تنشئ نظاماً ديمقراطياً تمثيلياً ركيزته الالتزام بالحريات العامة والحقوق الفردية التي، من دونها، لا وجود أساساً لدولة القانون، وبالتالي لا وجود للديمقراطية وللحرية ولحقوق الإنسان.
2 ـ من الواضح اليوم أنه يوجد معارضات، متعددة الاتجاهات، وهذا يمكن أن يشكل قوة دفعٍ لمسيرة بناء الديمقراطية. وإلى جانب هذه المعارضات واحدة تخوض مواجهاتٍ مسلحة مع النظام تجعل منها عقبة جدية في سبيل الحوار وعنصراً أساسياً في استراتيجية التدخل الأميركي – الإسرائيلي على الطريقة الليبية او العراقية.
أمامنا إذاً معارضات مدنية، غير مسلحة، من رموزها من يتمتع بشهرةٍ عربية، وحتى دولية. إن عدداً من هذه الرموز يقاطع الحوار الوطني، بدءاً من اللقاء التشاوري، بحجة عدم جدية النظام، وبالتالي لأنعدام الثقة به، وهي تحمّل النظام مسؤولية استغلال الأميركيين – وبالتالي الإسرائيليين والأوروبيين – لمواقفها لتبرير توجيه ضربة عسكرية لسورية، ضربة تشكل ذروة طموح الإسرائيليين، إذ معها قد تكتمل شروط العبوديّة، القديمة – الجديدة، المفروضة على المنطقة، بصيغتها الملائمة مع عصر الآحادية الدولية، وتنظيماتها الاقتصادية النيوليبرالية، وهي أخبث أشكال الديكتاتورية، حيث يتم تحميل الأشياء والظواهر تسمياتٍ وأوصاف تتناقض بالكامل مع حقيقتها وواقعها، بحيث تتماهى مع سلوك الامبراطورية وأولها ثقافة الكذب la culture du mesonge التي تنشرها الامبراطورية: مكافحة الإرهاب، تدمير ترسانات اسلحة الدمار الشامل، نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، مساعدة الشعوب على التحرر من الديكتاتوريات... مع ما يرافق ذلك من تشغيلٍ لمختبرات استنساخ أجيال وأجيال من العبيد، المتمسكين بعبوديتهم باسم الحرية والمعرفة!!!.. هكذا، باختصار، يصبح حمد آل ثاني قائداً ثورياً تحررياً يحل محلّ غيفارا، ولا يحرك ذلك استهجان سوى قلةٍ قليلة من الناس!!!... هذا طبعاً على سبيل المثال وليس الحصر. والأمثلة، في سياق الاستنساخ، لا تحصى ولا تُعدّ.
3 ـ لا بّد من التوقف عند موضوع توفر الثقة بين بعض المعارضات المدنية آنفة الذكر، من جهة، والنظام من جهة ثانية. لابّد من التساؤل عمّا إذا كان عدم توّفر الثقة يشكل مبرراً مشروعاً وكافياً وذات مصداقية لمقاطعة الحوار؟...
قبل البدء بالإجابة من واجبنا التمعن بتكلفة فشل الحوار، تكلفته على سورية الوطن – المجتمع، وتكلفته على المستوى القومي والاقليمي وحتى الدولي.
من الواضح تماماً أن الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن خلفها الاتحاد الأوروبي، لا تريد للحوار أن يقوم أو أن ينجح. لذلك نرى الستار الحديدي- والمقصود هنا أجهزة الإعلام الغربية الأساسية، المملوكة مباشرة من الكتل الصناعية العسكرية، خلافاً لألف باء الديمقراطية وحرية الإعلام وتعدديته – بغض النظر بالكامل عن "إنجازات" الجناح المسلّح من المعارضات السورية، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن هذه المجموعات المسلحة تستحق بأن تُسمّى معارضة، أو حتى معارضة مسلّحة.. وبحصر الستار الحديدي كل المسؤولية بالنظام لوحده الذي يواجه ملائكة أطهار.
إن تقنيات الدعاية Propaganda الحربية، العدوانية، الأميركية، تتطلب دائماً تجييش شعبي شبه هستيري، في الولايات المتحدة أولاً ثم في أوروبا، يساعد على اتخاذ القرارات بشن الحروب العدوانية، ويبررّها، ويبرئ الوحوش الأميركية – الاطلسية سلفاً من كافة المجازر والاستباحات التي يرتكبها هؤلاء الوحوش وآلتهم العسكرية التي تنفذ الإبادة الجماعية وكل أشكال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتضع مرتكبيها في مأمنٍ من أي ملاحقة قضائية فعلية. وأُشدد على عبارة ملاحقة قضائية فعلية إذ كلنا نتابع كيف تتم حماية المسؤولين الإسرائيليين من الوقوع في أشباك القضاء، في الاتحاد الأوروبي، ونعرف كيف جرى تهريب طوني بلير وإنقاذه من أية ملاحقةٍ قضائية، بل وكيف كوفئ بترئيسه لما يسمى بـ"الرباعية الدولية" المولجة بحل قضية فلسطين. والحل هنا يقضي بالإجهاز على القضية الفلسطينية، لكن الموت الأخلاقي – الثقافي – السياسي- للأعراب جعلهم يتعاملون مع هذا الدور الجديد لطوني بلير بشكل طبيعي جداً، لم يحرك بهم ساكناً، ممّا يثبت أيضاً أن "الانتماء" الوطني والقومي والإنساني والمجتمعي هو في حالة احتضار، بل ويلفظ انفاسه الأخيرة. نجاح عملية استنساخ العبيد.
هذه التقنيات الدعائية الحربية العدوانية، الأميركية – الأوروبية – الإسرائيلية، تصبّ جهودها على سورية جاعلة ممّا يحدث فيها بمثابة القضية الكونية الأولى في هذا الزمن، تماماً كما حدث إبان التحضير لشن الحرب على العراق وتدميره إنسانياً ومجتمعياً وثقافياً، ووطنياً، بالتزامن مع تدميره اقتصادياً وبيئياً وتقطيع أوصاله وإغراقه في الأهوال.
السيناريو نفسه يتكرر اليوم مع سورية. ومنطق الامبراطورية يقول الآتي: النظام مسؤول عن كل شيء. النظام لا يريد الحوار لأنه يرفض الإصلاح، لذلك يتأخر ويماطل وينفذ مجازر متنقلة وبالتالي إن صبر الدول "المتحضرة" صار في طور النفاذ ولابّد من التحرك والقيام بالواجب الإنساني والحضاري لإنقاذ شعب سورية، كما أنقذت الامبراطورية شعب العراق. وهي تكن للشعبين العاطفة نفسها. هكذا ستقع الكارثة الكبرى. هذا باختصار شديد.
الامبراطورية، وآلياتها الأوروبية والإسرائيلية، تستغل استغلالاً كاملاً مقاطعة المعارضات السورية المدنية للحوار الذي انطلق مع اللقاء التشاوري الأول ومع مشاريع الإصلاح التي أقرت. مع الأخذ في الاعتبار طبعاً وجود فريقٍ من المعارضة المدنية أقدم على المشاركة في الحوار، وشاهدناه على الشاشات الصغيرة، عند انعقاد اللقاء التشاوري، وهو يكيل الانتقادات القاسية للنظام. وهذا ما لم نعتد عليه سابقاً، وهو يؤشر الى حدوث بداية تغيّر ما على مستوى إدارة الشان العام في سورية، تغيّر يجب تشجيعه ومواكبته بدلاً من مقاطعته بحجة عدم الثقة باستعداد النظام للمضي قُدماً، وحتى النهاية، في الإصلاحات.
إن عدم المشاركة في الحوار، أيّاً كان التبرير الذي يعطى لذلك وأولّه موضوع عدم الثقة بصدقية النظام، يستخدم من جانب الأميركيين – الإسرائيليين كمعبرٍ إلزامي – ضروري لتدمير سورية، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، والمطروح الآن هو التدمير المباشر بواسطة آلة الحرب الشاملة الأطلسية تحت عنوان "إنقاذ شعب في خطر".
4 ـ إن تدمير سورية، سواء على الطريقة العراقية أو الليبية، يعني أيضاً تفجر لبنان الذي هو أصلاً فاقد للمناعة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ناهيك عن فقدانه لمناعة الانتماء، خصوصاً ان ما يتراوح بين ثلث إلى نصف مكوناته السكانية لا تعتبر أن إسرائيل هي العدو الفعلي للبنان، وهذه وضعية معيبة، مخجلة، لبلد هو الوحيد بعد فلسطين الذي سقطت عاصمته تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، بالإضافة إلى كون جزءٍ، بل أجزاء، من مكوناته البشرية مستعدة للالتحاق بركب "الاشقاء" الأعراب في مسيرة الصهيونية العربية التي يدون فيها الملاذ الآمن للحرية. نموذج ناجح من استنساخ العبيد. في حال حصول ذلك سوف يتمكن الإسرائيلي، بمساعدةٍ وتمويل من بعض حكومات الصهيونية العربية، المقدامة في خوض معركة الحرية والديمقراطية في سورية وليبيا، سوف يتمكن من قيادة وتوجيه الفتن المذهبية بحيث يكرّر اللبنانيون، وبنجاح متوقع سلفاً، ارتكاب المجازر والمظالم بحق بعضهم البعض. وأصوات التهديد والوعيد في هذا المجال باتت ترتفع، من دون الحد الأدنى من الحياء، على ايقاع الأزمة السورية، فتكتب فصول جديدة في حوليات العمالة والخيانة في كيانٍ للخيانة العظمى فيه مكانة مرموقة لكونها ليست أكثر من وجهة نظر ملازمة لحق الفرد في تحديد خياراته السياسية. إنه منطق نظام المعتقلات المذهبية، نظام التمييز العنصري Apartheid، وكاتب هذه السطور ممن يعانون من التمييز العنصري الذي يَفرضُ عليه مواطنيةً من الدرجة الخامسة، يعني اللامواطنية. وإذا كان الأستاذ ميشال كيلو يخشى استفحال المذهبيات في حال عدم ايجاد حلّ سريعٍ للأزمة السورية، فما بالنا بلبنان؟!.. ما بلنا بلبنان؟!..
إن تفجير لبنان، كنتيجة حتمية لأي حربٍ عدوانيةٍ أطلسية تشن على سورية سوف تكون مناسبة لحملةٍ إسرائيلية جديدة تستهدف المقاومة اللبنانية المظفرة التي تتعرض أساساً، ومنهجياً لضربات إسرائيلية من الداخل اللبناني عبر المطالبة بإلغائها، بالإضافة إلى إسهام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي همها إدانة "حزب الله". من في استطاعته أن يتصور المشهد اللبناني آنذاك؟؟؟..
طبعاً، إن توجيه ضربة أطلسية لسورية، مع تداعياتها اللبنانية يذبح القضية الفلسطينية من الوريد إلى الوريد. وعبارة "يذبح" ربما تكون قليلة في هذا المجال. فإسرائيل التي تشارك، بصمتٍ، ولكن بفعاليةٍ عالية، في احتلال العراق، وتقيم فيها قواعد استخباراتية لا تقتصر مهماتها على الأراضي العراقية وإنما تستهدف أيضاً منظومة الدول المطلة على بحر قزوين حيث الجهود الروسية – الإيرانية على أشدها في التصدي للأميركيين في معركة "أوراسيا". والتمركز الأساسي لقيادة الاحتلال الإسرائيلي للعراق هو في منطقة الشمال حيث نفذت الاستخبارات الإسرائيلية وعملاؤها عمليات أمنيةٍ عدة استهدفت الوجود المسيحي في هذه المنطقة مما يسرع عملية التهجير. إن هذا الانتشار الإسرائيلي، السياسي – الأمني – الثقافي، من الداخل الفلسطيني الى الداخل اللبناني فالداخل السوري فالداخل العراقي، ناهيك عن الاحتلال الإسرائيلي للجزء الجنوبي من السودان، وتحوّل إسرائيل إلى القوة الأقوى بين دول حوض النيل.. هذا الانتشار، وما يرافقه من فوضاتٍ "خلاّقة" سوف يسهم في توفير غطاءٍ للصدمات التهجيرية التي ستوجّه إلى أبناء الضفة الغربية وحتى إلى أبناء أراضي 1948، وليس من قبيل المصادفة أن يعود الإسرائيليون إلى الحديث عن "الخيار الأردني" كوطنٍ بديل للفلسطينيين.
كل ذلك دون الحديث عن مفاعيل الحرب الأطلسية الواسعة النطاق على سورية، وتحديداً من ناحية دخول الجمهورية الإسلامية الإيرانية مباشرة في المواجهة، وهو احتمال لا يجوز إسقاطه من حساباتنا، وإن لم يكن حدوثه مؤكداً. لكنه وارد. كيف سيصبح آنذاك وضع الخليج؟.. والاقتصاد الدولي؟... والأزمات التي ستنجم عن ذلك؟... وماذا سيحدث بين إيران وإسرائيل؟... وبين إيران وتركيا؟... وأي نوعٍ من الأسلحة ستسخدم؟... وما نتائج استخدام هذه الأسلحة؟... القضية كبيرة جداً. ودور الجغرافيا – السياسية، وما يبنى عليها من جغرافيا استراتيجية – Geo strategie تؤكد بما لا يقبل الشك أن من يسقط الجغرافيا من معادلة السياسة، يخرج نفسه من التاريخ.
إن مسألة "الحوار" مسألة مركزية، فانطلاقته يجرّد الأطلسيين من "الغطاء السوري" الضروري لتدمير سورية، يا لسخريةِ القدر. هنا مسؤولية المعارضة المدنية وأولها القومية العلمانية، المفترض بها أن تحرم الأطلسيين من استغلال موقفها لتدمير سورية.
5 ـ أقلّ ما يمكن انتظاره من المعارضة المدنية، وبخاصة المعارضة القومية العلمانية، هو أن تطرح برنامجاً إصلاحياً متكاملاً تحمله إلى طاولة الحوار، وأن تذهب في الحوار إلى نهاياته وان تشكّل كتلةً إصلاحية طاغطة، وأن ترفع صوتها عالياً في رفض أي عملٍ حربي تقليدي، أو استخباراتي – أمني، يوجه لسورية، اولاً لأن هذا هو واجبها الوطني والقومي، وتالياً لكون موقفٍ من هذا النوع من شأنه أن يعزّز مسيرة الإصلاح ويسرّعها فيكون الفوز حليف سورية. سورية للسوريين.
6 ـ إن حجة التذرّع بعدم الثقة لتبرير الامتناع عن المشاركة في الحوار، كما هو مطروح ومبرمج، ليست مقبولة في ظلّ الأخطار المحدقة بسورية، ومن خلال سورية بالمنطقة عموماً، وبالتالي بالعالم.
مثلان يبرزان أمامنا ويؤكدان أن التذرّع بعدم توفر الثة هو موقف طفولي بكل معنى الكلمة.
المثل الأول هو الحوار الذي بدأ بين الزعيم السجين نلسون مانديلا والحاكم الأبيض فريدريك دو كلير بهدف إنهاء نظام التفرقة العنصرية ونقل السلطة الى الأكثرية السوداء في جنوب أفريقيا. هل كان نلسون مانديلا يثق بفردريك دو كلير قبل الدخول في حوارٍ معه؟!.. لا شيء على الإطلاق يوحي بذلك. بيد أن حوار العقل والمنطق، وعلاقات القوة، والنوايا الحسنة، بالإضافة إلى عناصر أخرى اسهمت كلّها في نجاح هذه التجربة التي كان من معجزاتها العاقلة الحفاظ على المكتسبات التي تحققت على يدِ نظام التمييز العنصري. إن ما كان يفرق بين البيض والسود في جنوب أفريقيا أوسع بكثير – كثير ممّا يفرق ما بين النظام والمعارضة في سورية. وفي سياق الحرص على ميزان الدقة في الكلام فأنني أجلُّ الرئيس بشار الأسد من اي شَبّهٍ مع الرئيس السابق لجنوب أفريقيا في زمن التمييز العنصري.
وأمّا المثل الثاني فهو الحوار الذي جرى في بولنّدا ما بين القائد العمالي ليخ ﭭاونسا، زعيم نقابات "التضامن"، ورئيس الدولة الجنرال ياروزلسكي. الثقة بين الرجلين، كما بين الحزب الشيوعي الحاكم ونقابات "التضامن"، كانت تحت الصفر. لكن ذلك لم يمنع كلاًٌ منهما من تحملّ مسؤولياته. هنا أيضاً يصح القول أن الشرخ الذي كان حاصلاً في بولندا، ما بين الحزب الحاكم من جهة، والكنيسة الكاثوليكية والمعارضة من جهة ثانية، كان أعمق بكثير من الشرخ الحاصل في سورية.
إسرائيل... وإجتياز المحظور
7 ـ أشرنا آنفاً إلى الانتشار الإسرائيلي، السياسي – الأمني – الثقافي، في داخل المنطقة من دون استثناء الداخل السوري. كان يمكن لهذا الاستثناء أن يظلّ ساري المفعول لولا مشاركة قيادة حركة الإخوان المسلمين السوريين في المؤتمر الصهيوني – الإسرائيلي الذي عُقد في باريس بدعوةٍ من الكاتب الصهيوني، الفرنسي الإسرائيلي، برنار هنري ليفي وحضور رموز اللوبي الصهيوني – الإسرائيلي في فرنسا، تحت عنوان التضامن مع الشعب السوري والمطالبة بإسقاط النظام. كما هو معروف، لقد حضر المؤتمر أحد قادة الإخوان ويدعى الأستاذ ملهم الدروبي.
إن هذه المشاركة ليست حدثاً عابراً، أوحادثة ً عرضية، أو نزوة. إنها تشكّل أمراً خطيراً أغلب الظن أنها أتت تلبية لشرطٍ وضعه الإسرائيليون مقابل..؟؟.. مقابل ماذا؟.. هذا هو السؤال الفعلي.
بكل هدوءٍ وروّية، حسبنا إعطاء تعريفٍ، ولو خاطفٍ، عن صاحب الدعوة ومنسق المؤتمر الأستاذ برنار هنري ليفي، دون حاجةٍ إلى تقديم سردٍ تفصيلي عن أصله وفصله. إن برنار هنري ليفي هو الرقيب الصهيوني الأول، والأكثر نفوذاً وبأساً، في ميدان الإعلام والنشر في فرنسا. إنه يسيطر، من فوق، على الإعلام المرئي والمسموع، وعلى الصحافة المكتوبة، اليومية والإسبوعية والشهرية والفصلية، وكذلك على دُور النشر، في مختلف المواضيع. مهمته تأمين الدعاية لإسرائيل وللحركة الصهيونية، والدفاع عن مصالحهما. إنه، في نظر العديد من الباحثين الأوروبيين الأشراف، يحتل موقع الصدارة في ميدان التزوير الإعلامي. ثمة كتابات عدة تتناوله بالنقد الشديد بسبب عمليات الهيمنة والإرهاب الفكري والتزوير، ليس آخرها (أي الكتابات) ما جاء في الكتاب الصادر هذه السنة للباحث الفرنسي الشهير باسكال بو نيفاس بعنوان: "المثقفون المزوّرون – الانتصار الإعلامي للخبراء في الكذب". إنه جزءٌ من عمليةٍ مخابراتية أميركية – إسرائيلية معقدة، تناولت الأوضاع في ليبيا وسورية. إصطحبه السناتوران الأميركيان، ماكين وليبرمان، إلى القاهرة في شباط 2011 حيث التحق بهم الليبي محمود جبريل وشخص مجهول جرى التعريف عنه كرئيس للجنة السورية لحقوق الإنسان.
المهم أن برنار هنري ليفي شخص نافذٌ جداً في المنظومة الإسرائيلية – الأطلسية، وهو الذي وضع الإعلام الفرنسي، المرئي والمسموع والمكتوب، في تصرف المعارضات السورية، وخصوصاً الفريق المسلّح الذي يقوم بعملياتٍ إرهابية في الداخل السوري. يكشف الأوراق حيث من المصلحةِ كشفها، ويخفيها حيث من المصلحة إخفاءها.
لا أحد يقدم خدماتٍ مجانية. وآخر اهتمامات منظومة برنار هنري ليفي معرفة ودعم من هو ديمقراطي، بل أين هي مصلحة إسرائيل. لكن الملفت للنظر أن هذه المسألة لا تأخذ الحيّز الذي تستحقه في السجالات والنقاشات السياسية السورية، لا بين صفوف وأجنحة المعارضات السورية ولا حتى في الاتهامات التي يكيلها إعلام النظام ضد المعارضات.
حقاً، إن مشاركة الأستاذ الدروبي، والصمت المدوي الذي يحيط بهذه القضية، لا يشكلان أكثر من رأس جبل الجليد في العلاقة الناشئة بين بعض قيادة حركة الإخوان والحركة الصهيونية وإسرائيل. وهنا نقتضي الدقة والرصانة عدم المزج ما بين قواعد الإخوان والقيادات التي نسجت هذه العلاقة المريبة بواسطة أبرز المطالبين بتوجيه ضربة عسكرية لسورية، نائب رئيس الجمهورية السابق.
ثمة عملية استخباراتية – أمنية مركبّة تجري بعيداً عن أعين الشعب السوري، وحتى بعيداً عن أعين العديد من القيادات، وتصب في اتجاه توفير الظروف والمبررات للتدخل العسكري الأطلسي.
إن من يقيم علاقات مع العدو الإسرائيلي يفقد شرف الوقوف في صفوف المعارضة أو شرف الوقوف في صفوف النظام.
فعلاً، ثمة أشياء تحدث لا يعلم بها سوى القليل القليل من الناس. وهذا ما يحتم الانضمام إلى الحوار وتحويله إلى درع يحمي سورية ويدفع عنها كرة الموت.
8 ـ إلى جانب هذه الحالة المليئة بالألغاز يحدث ما يعزز مخاوفنا. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، يلاحظ أن الموضوع الإسرائيلي يتراجع في أدبيات المعارضات السورية المفترض بها أن تقدم برنامج حكمٍ بعد مشروعها التفصيلي للإصلاح. لم نسمع موقفاً عن العلاقة اللبنانية – السورية، ولا موقفاً مؤيداً وداعماً للمقاومة. إنه حقاً أمرٌ مقلق أن تبدأ في الظهور ملامحُ عصرٍ مذهبيَّ لعينٍ في سورية على غرار المذهبية المنحطة في لبنان. معه قد تسقط كل الدفاعات. من هنا وجوب اقتداء رموز المعارضة القومية العلمانية بتجربتي نلسون مانديلا وليخ ﭭاونسا. فسورية بلد الكفاءات، بل هي مقلع الكفاءات والعباقرة ولا يمكن أن تنزلق في متاهات رسمها الأستاذ ليفي. إن هذا الانفتاح المريب على الصهيونية سيكلف سورية غالياً مثلما كلف ويكلف لبنان. وهذا ما يجب التوقف عنده، وإجراء محاسبة للمسؤولين عنه، والمتسببين به، لكشف خلفياته ودرءِ الأخطار التي ستنجم عنه. فمن الواضح أن ثمة رعاية أطلسية لعصابات الإرهاب التي تقوم بعملية إشغالٍ دائم للجيش العربي السوري، من منطقةٍ إلى منطقة، بقصدِ استنزافه وإنهاكه لتسهيل اقدام إسرائيل على شن حرب ٍ تدميريةٍ خاطفة.
كل الاحتمالات واردة، والمطلوب وقفة رجال مسؤولين يتجاوزون النقيق المطلبي.
بيروت في 6-9-2011
حسن حمادة
ورقة عمل مقدمة ضمن ندوة في مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت
يا له من سؤالٍ مرعب. الحياء يحول دون سماح كاتب هذه السطور لنفسه بأن ينظر في الأزمة السورية، فيتصوّر حلولاً، أو ينصح باعتماد حلولٍ، فيما ينطبق عليه القول المأثور: "طبيب يداوي الناس وهو عليل". فَمَن كان نظام التفرقة العنصرية نظامه، أبارتايد على قاعدة طائفيةٍ – مذهبية، لا يحق له أن يقترح على الآخرين نظاماً، أو ان يظن نفسه، ولو للحظة، أنه يمتلك الأهلية السياسية أو الأخلاقية لإرشاد الآخرين. لكنها الجغرافيا، صاحبة الحكم المطلق، والحكمة الثابتة، قاعدة القياس، ومعيار الحقيقة، تجعل من الشقيقين التوأم، لبنان وسورية، متكاملين عضوياً، ترتد أحوال كلاٍُّ منهما على الآخر، بإيجابياتها وسلبياتها، فهما يشكلان حوضاً استراتيجياً واحداً، من المستحيل تفكيك أواصره، وما أكثرها.
فبما أنها الجغرافيا، باسمها أستميحُ الحياء عذراً لأحاول الإجابة عن السؤال المطروح، سورية إلى أين أو "لبنان إلى أين"...؟ مستقوياً باحترام بموجبات المبدأ القائل: "من سلامة الإنسان قلة حفظه لعيوب غيره وعنايته بإصلاح عيوبه"..
فمن داخل الحصار المفروض علينا من المعتقلات الطائفية – المذهبية، وعمودها الفقري ثقافة الكراهية للآخر، تنطلق محاولة الإجابة على السؤال، بعد الإقرار للأستاذ ميشال كيلو، الأديب والمفكر والمكافح الديمقراطي المرموق، بأحقيته في تقديم الصورة التي يجدها الأقرب إلى الواقع القائم، وتشخيص خلفية الأزمة العاصفة بالجمهورية العربية السورية.
الحوار الناجح أو... الكارثة.
1 ـ ربمّا كانت سورية، ومن خلفها لبنان، ذاهبة إلى الكارثة، بسبب تعطلّ الحوار الداخلي الواسع، لعدم اكتمال عقد المحاورين من بين القوى، والاتجاهات، والكتل، والفعاليات، التي يعوّل عليها للتوصل مع ممثلي النظام الحالي إلى مشروع متكاملٍ للإصلاح بدأت ملامحه الأولية، أقول الأولية، بالظهور مع إعلان الرئيس السوري بكل صراحة عن عزمه على تحقيق هذه الإصلاحات وإقراره لبعضٍ منها، وخصوصاً ما له صلة بالتعددية السياسية وإنهاء نظام الحزب القائد، أو ما له صلة بقوانين الطوارئ، كبداية للتغيير الشامل، وهي مشاريع إذا ما قدر لها أن تدخل حيز التطبيق، في الواقع العملي، سوف تنشئ نظاماً ديمقراطياً تمثيلياً ركيزته الالتزام بالحريات العامة والحقوق الفردية التي، من دونها، لا وجود أساساً لدولة القانون، وبالتالي لا وجود للديمقراطية وللحرية ولحقوق الإنسان.
2 ـ من الواضح اليوم أنه يوجد معارضات، متعددة الاتجاهات، وهذا يمكن أن يشكل قوة دفعٍ لمسيرة بناء الديمقراطية. وإلى جانب هذه المعارضات واحدة تخوض مواجهاتٍ مسلحة مع النظام تجعل منها عقبة جدية في سبيل الحوار وعنصراً أساسياً في استراتيجية التدخل الأميركي – الإسرائيلي على الطريقة الليبية او العراقية.
أمامنا إذاً معارضات مدنية، غير مسلحة، من رموزها من يتمتع بشهرةٍ عربية، وحتى دولية. إن عدداً من هذه الرموز يقاطع الحوار الوطني، بدءاً من اللقاء التشاوري، بحجة عدم جدية النظام، وبالتالي لأنعدام الثقة به، وهي تحمّل النظام مسؤولية استغلال الأميركيين – وبالتالي الإسرائيليين والأوروبيين – لمواقفها لتبرير توجيه ضربة عسكرية لسورية، ضربة تشكل ذروة طموح الإسرائيليين، إذ معها قد تكتمل شروط العبوديّة، القديمة – الجديدة، المفروضة على المنطقة، بصيغتها الملائمة مع عصر الآحادية الدولية، وتنظيماتها الاقتصادية النيوليبرالية، وهي أخبث أشكال الديكتاتورية، حيث يتم تحميل الأشياء والظواهر تسمياتٍ وأوصاف تتناقض بالكامل مع حقيقتها وواقعها، بحيث تتماهى مع سلوك الامبراطورية وأولها ثقافة الكذب la culture du mesonge التي تنشرها الامبراطورية: مكافحة الإرهاب، تدمير ترسانات اسلحة الدمار الشامل، نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، مساعدة الشعوب على التحرر من الديكتاتوريات... مع ما يرافق ذلك من تشغيلٍ لمختبرات استنساخ أجيال وأجيال من العبيد، المتمسكين بعبوديتهم باسم الحرية والمعرفة!!!.. هكذا، باختصار، يصبح حمد آل ثاني قائداً ثورياً تحررياً يحل محلّ غيفارا، ولا يحرك ذلك استهجان سوى قلةٍ قليلة من الناس!!!... هذا طبعاً على سبيل المثال وليس الحصر. والأمثلة، في سياق الاستنساخ، لا تحصى ولا تُعدّ.
3 ـ لا بّد من التوقف عند موضوع توفر الثقة بين بعض المعارضات المدنية آنفة الذكر، من جهة، والنظام من جهة ثانية. لابّد من التساؤل عمّا إذا كان عدم توّفر الثقة يشكل مبرراً مشروعاً وكافياً وذات مصداقية لمقاطعة الحوار؟...
قبل البدء بالإجابة من واجبنا التمعن بتكلفة فشل الحوار، تكلفته على سورية الوطن – المجتمع، وتكلفته على المستوى القومي والاقليمي وحتى الدولي.
من الواضح تماماً أن الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن خلفها الاتحاد الأوروبي، لا تريد للحوار أن يقوم أو أن ينجح. لذلك نرى الستار الحديدي- والمقصود هنا أجهزة الإعلام الغربية الأساسية، المملوكة مباشرة من الكتل الصناعية العسكرية، خلافاً لألف باء الديمقراطية وحرية الإعلام وتعدديته – بغض النظر بالكامل عن "إنجازات" الجناح المسلّح من المعارضات السورية، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن هذه المجموعات المسلحة تستحق بأن تُسمّى معارضة، أو حتى معارضة مسلّحة.. وبحصر الستار الحديدي كل المسؤولية بالنظام لوحده الذي يواجه ملائكة أطهار.
إن تقنيات الدعاية Propaganda الحربية، العدوانية، الأميركية، تتطلب دائماً تجييش شعبي شبه هستيري، في الولايات المتحدة أولاً ثم في أوروبا، يساعد على اتخاذ القرارات بشن الحروب العدوانية، ويبررّها، ويبرئ الوحوش الأميركية – الاطلسية سلفاً من كافة المجازر والاستباحات التي يرتكبها هؤلاء الوحوش وآلتهم العسكرية التي تنفذ الإبادة الجماعية وكل أشكال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتضع مرتكبيها في مأمنٍ من أي ملاحقة قضائية فعلية. وأُشدد على عبارة ملاحقة قضائية فعلية إذ كلنا نتابع كيف تتم حماية المسؤولين الإسرائيليين من الوقوع في أشباك القضاء، في الاتحاد الأوروبي، ونعرف كيف جرى تهريب طوني بلير وإنقاذه من أية ملاحقةٍ قضائية، بل وكيف كوفئ بترئيسه لما يسمى بـ"الرباعية الدولية" المولجة بحل قضية فلسطين. والحل هنا يقضي بالإجهاز على القضية الفلسطينية، لكن الموت الأخلاقي – الثقافي – السياسي- للأعراب جعلهم يتعاملون مع هذا الدور الجديد لطوني بلير بشكل طبيعي جداً، لم يحرك بهم ساكناً، ممّا يثبت أيضاً أن "الانتماء" الوطني والقومي والإنساني والمجتمعي هو في حالة احتضار، بل ويلفظ انفاسه الأخيرة. نجاح عملية استنساخ العبيد.
هذه التقنيات الدعائية الحربية العدوانية، الأميركية – الأوروبية – الإسرائيلية، تصبّ جهودها على سورية جاعلة ممّا يحدث فيها بمثابة القضية الكونية الأولى في هذا الزمن، تماماً كما حدث إبان التحضير لشن الحرب على العراق وتدميره إنسانياً ومجتمعياً وثقافياً، ووطنياً، بالتزامن مع تدميره اقتصادياً وبيئياً وتقطيع أوصاله وإغراقه في الأهوال.
السيناريو نفسه يتكرر اليوم مع سورية. ومنطق الامبراطورية يقول الآتي: النظام مسؤول عن كل شيء. النظام لا يريد الحوار لأنه يرفض الإصلاح، لذلك يتأخر ويماطل وينفذ مجازر متنقلة وبالتالي إن صبر الدول "المتحضرة" صار في طور النفاذ ولابّد من التحرك والقيام بالواجب الإنساني والحضاري لإنقاذ شعب سورية، كما أنقذت الامبراطورية شعب العراق. وهي تكن للشعبين العاطفة نفسها. هكذا ستقع الكارثة الكبرى. هذا باختصار شديد.
الامبراطورية، وآلياتها الأوروبية والإسرائيلية، تستغل استغلالاً كاملاً مقاطعة المعارضات السورية المدنية للحوار الذي انطلق مع اللقاء التشاوري الأول ومع مشاريع الإصلاح التي أقرت. مع الأخذ في الاعتبار طبعاً وجود فريقٍ من المعارضة المدنية أقدم على المشاركة في الحوار، وشاهدناه على الشاشات الصغيرة، عند انعقاد اللقاء التشاوري، وهو يكيل الانتقادات القاسية للنظام. وهذا ما لم نعتد عليه سابقاً، وهو يؤشر الى حدوث بداية تغيّر ما على مستوى إدارة الشان العام في سورية، تغيّر يجب تشجيعه ومواكبته بدلاً من مقاطعته بحجة عدم الثقة باستعداد النظام للمضي قُدماً، وحتى النهاية، في الإصلاحات.
إن عدم المشاركة في الحوار، أيّاً كان التبرير الذي يعطى لذلك وأولّه موضوع عدم الثقة بصدقية النظام، يستخدم من جانب الأميركيين – الإسرائيليين كمعبرٍ إلزامي – ضروري لتدمير سورية، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، والمطروح الآن هو التدمير المباشر بواسطة آلة الحرب الشاملة الأطلسية تحت عنوان "إنقاذ شعب في خطر".
4 ـ إن تدمير سورية، سواء على الطريقة العراقية أو الليبية، يعني أيضاً تفجر لبنان الذي هو أصلاً فاقد للمناعة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ناهيك عن فقدانه لمناعة الانتماء، خصوصاً ان ما يتراوح بين ثلث إلى نصف مكوناته السكانية لا تعتبر أن إسرائيل هي العدو الفعلي للبنان، وهذه وضعية معيبة، مخجلة، لبلد هو الوحيد بعد فلسطين الذي سقطت عاصمته تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، بالإضافة إلى كون جزءٍ، بل أجزاء، من مكوناته البشرية مستعدة للالتحاق بركب "الاشقاء" الأعراب في مسيرة الصهيونية العربية التي يدون فيها الملاذ الآمن للحرية. نموذج ناجح من استنساخ العبيد. في حال حصول ذلك سوف يتمكن الإسرائيلي، بمساعدةٍ وتمويل من بعض حكومات الصهيونية العربية، المقدامة في خوض معركة الحرية والديمقراطية في سورية وليبيا، سوف يتمكن من قيادة وتوجيه الفتن المذهبية بحيث يكرّر اللبنانيون، وبنجاح متوقع سلفاً، ارتكاب المجازر والمظالم بحق بعضهم البعض. وأصوات التهديد والوعيد في هذا المجال باتت ترتفع، من دون الحد الأدنى من الحياء، على ايقاع الأزمة السورية، فتكتب فصول جديدة في حوليات العمالة والخيانة في كيانٍ للخيانة العظمى فيه مكانة مرموقة لكونها ليست أكثر من وجهة نظر ملازمة لحق الفرد في تحديد خياراته السياسية. إنه منطق نظام المعتقلات المذهبية، نظام التمييز العنصري Apartheid، وكاتب هذه السطور ممن يعانون من التمييز العنصري الذي يَفرضُ عليه مواطنيةً من الدرجة الخامسة، يعني اللامواطنية. وإذا كان الأستاذ ميشال كيلو يخشى استفحال المذهبيات في حال عدم ايجاد حلّ سريعٍ للأزمة السورية، فما بالنا بلبنان؟!.. ما بلنا بلبنان؟!..
إن تفجير لبنان، كنتيجة حتمية لأي حربٍ عدوانيةٍ أطلسية تشن على سورية سوف تكون مناسبة لحملةٍ إسرائيلية جديدة تستهدف المقاومة اللبنانية المظفرة التي تتعرض أساساً، ومنهجياً لضربات إسرائيلية من الداخل اللبناني عبر المطالبة بإلغائها، بالإضافة إلى إسهام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي همها إدانة "حزب الله". من في استطاعته أن يتصور المشهد اللبناني آنذاك؟؟؟..
طبعاً، إن توجيه ضربة أطلسية لسورية، مع تداعياتها اللبنانية يذبح القضية الفلسطينية من الوريد إلى الوريد. وعبارة "يذبح" ربما تكون قليلة في هذا المجال. فإسرائيل التي تشارك، بصمتٍ، ولكن بفعاليةٍ عالية، في احتلال العراق، وتقيم فيها قواعد استخباراتية لا تقتصر مهماتها على الأراضي العراقية وإنما تستهدف أيضاً منظومة الدول المطلة على بحر قزوين حيث الجهود الروسية – الإيرانية على أشدها في التصدي للأميركيين في معركة "أوراسيا". والتمركز الأساسي لقيادة الاحتلال الإسرائيلي للعراق هو في منطقة الشمال حيث نفذت الاستخبارات الإسرائيلية وعملاؤها عمليات أمنيةٍ عدة استهدفت الوجود المسيحي في هذه المنطقة مما يسرع عملية التهجير. إن هذا الانتشار الإسرائيلي، السياسي – الأمني – الثقافي، من الداخل الفلسطيني الى الداخل اللبناني فالداخل السوري فالداخل العراقي، ناهيك عن الاحتلال الإسرائيلي للجزء الجنوبي من السودان، وتحوّل إسرائيل إلى القوة الأقوى بين دول حوض النيل.. هذا الانتشار، وما يرافقه من فوضاتٍ "خلاّقة" سوف يسهم في توفير غطاءٍ للصدمات التهجيرية التي ستوجّه إلى أبناء الضفة الغربية وحتى إلى أبناء أراضي 1948، وليس من قبيل المصادفة أن يعود الإسرائيليون إلى الحديث عن "الخيار الأردني" كوطنٍ بديل للفلسطينيين.
كل ذلك دون الحديث عن مفاعيل الحرب الأطلسية الواسعة النطاق على سورية، وتحديداً من ناحية دخول الجمهورية الإسلامية الإيرانية مباشرة في المواجهة، وهو احتمال لا يجوز إسقاطه من حساباتنا، وإن لم يكن حدوثه مؤكداً. لكنه وارد. كيف سيصبح آنذاك وضع الخليج؟.. والاقتصاد الدولي؟... والأزمات التي ستنجم عن ذلك؟... وماذا سيحدث بين إيران وإسرائيل؟... وبين إيران وتركيا؟... وأي نوعٍ من الأسلحة ستسخدم؟... وما نتائج استخدام هذه الأسلحة؟... القضية كبيرة جداً. ودور الجغرافيا – السياسية، وما يبنى عليها من جغرافيا استراتيجية – Geo strategie تؤكد بما لا يقبل الشك أن من يسقط الجغرافيا من معادلة السياسة، يخرج نفسه من التاريخ.
إن مسألة "الحوار" مسألة مركزية، فانطلاقته يجرّد الأطلسيين من "الغطاء السوري" الضروري لتدمير سورية، يا لسخريةِ القدر. هنا مسؤولية المعارضة المدنية وأولها القومية العلمانية، المفترض بها أن تحرم الأطلسيين من استغلال موقفها لتدمير سورية.
5 ـ أقلّ ما يمكن انتظاره من المعارضة المدنية، وبخاصة المعارضة القومية العلمانية، هو أن تطرح برنامجاً إصلاحياً متكاملاً تحمله إلى طاولة الحوار، وأن تذهب في الحوار إلى نهاياته وان تشكّل كتلةً إصلاحية طاغطة، وأن ترفع صوتها عالياً في رفض أي عملٍ حربي تقليدي، أو استخباراتي – أمني، يوجه لسورية، اولاً لأن هذا هو واجبها الوطني والقومي، وتالياً لكون موقفٍ من هذا النوع من شأنه أن يعزّز مسيرة الإصلاح ويسرّعها فيكون الفوز حليف سورية. سورية للسوريين.
6 ـ إن حجة التذرّع بعدم الثقة لتبرير الامتناع عن المشاركة في الحوار، كما هو مطروح ومبرمج، ليست مقبولة في ظلّ الأخطار المحدقة بسورية، ومن خلال سورية بالمنطقة عموماً، وبالتالي بالعالم.
مثلان يبرزان أمامنا ويؤكدان أن التذرّع بعدم توفر الثة هو موقف طفولي بكل معنى الكلمة.
المثل الأول هو الحوار الذي بدأ بين الزعيم السجين نلسون مانديلا والحاكم الأبيض فريدريك دو كلير بهدف إنهاء نظام التفرقة العنصرية ونقل السلطة الى الأكثرية السوداء في جنوب أفريقيا. هل كان نلسون مانديلا يثق بفردريك دو كلير قبل الدخول في حوارٍ معه؟!.. لا شيء على الإطلاق يوحي بذلك. بيد أن حوار العقل والمنطق، وعلاقات القوة، والنوايا الحسنة، بالإضافة إلى عناصر أخرى اسهمت كلّها في نجاح هذه التجربة التي كان من معجزاتها العاقلة الحفاظ على المكتسبات التي تحققت على يدِ نظام التمييز العنصري. إن ما كان يفرق بين البيض والسود في جنوب أفريقيا أوسع بكثير – كثير ممّا يفرق ما بين النظام والمعارضة في سورية. وفي سياق الحرص على ميزان الدقة في الكلام فأنني أجلُّ الرئيس بشار الأسد من اي شَبّهٍ مع الرئيس السابق لجنوب أفريقيا في زمن التمييز العنصري.
وأمّا المثل الثاني فهو الحوار الذي جرى في بولنّدا ما بين القائد العمالي ليخ ﭭاونسا، زعيم نقابات "التضامن"، ورئيس الدولة الجنرال ياروزلسكي. الثقة بين الرجلين، كما بين الحزب الشيوعي الحاكم ونقابات "التضامن"، كانت تحت الصفر. لكن ذلك لم يمنع كلاًٌ منهما من تحملّ مسؤولياته. هنا أيضاً يصح القول أن الشرخ الذي كان حاصلاً في بولندا، ما بين الحزب الحاكم من جهة، والكنيسة الكاثوليكية والمعارضة من جهة ثانية، كان أعمق بكثير من الشرخ الحاصل في سورية.
إسرائيل... وإجتياز المحظور
7 ـ أشرنا آنفاً إلى الانتشار الإسرائيلي، السياسي – الأمني – الثقافي، في داخل المنطقة من دون استثناء الداخل السوري. كان يمكن لهذا الاستثناء أن يظلّ ساري المفعول لولا مشاركة قيادة حركة الإخوان المسلمين السوريين في المؤتمر الصهيوني – الإسرائيلي الذي عُقد في باريس بدعوةٍ من الكاتب الصهيوني، الفرنسي الإسرائيلي، برنار هنري ليفي وحضور رموز اللوبي الصهيوني – الإسرائيلي في فرنسا، تحت عنوان التضامن مع الشعب السوري والمطالبة بإسقاط النظام. كما هو معروف، لقد حضر المؤتمر أحد قادة الإخوان ويدعى الأستاذ ملهم الدروبي.
إن هذه المشاركة ليست حدثاً عابراً، أوحادثة ً عرضية، أو نزوة. إنها تشكّل أمراً خطيراً أغلب الظن أنها أتت تلبية لشرطٍ وضعه الإسرائيليون مقابل..؟؟.. مقابل ماذا؟.. هذا هو السؤال الفعلي.
بكل هدوءٍ وروّية، حسبنا إعطاء تعريفٍ، ولو خاطفٍ، عن صاحب الدعوة ومنسق المؤتمر الأستاذ برنار هنري ليفي، دون حاجةٍ إلى تقديم سردٍ تفصيلي عن أصله وفصله. إن برنار هنري ليفي هو الرقيب الصهيوني الأول، والأكثر نفوذاً وبأساً، في ميدان الإعلام والنشر في فرنسا. إنه يسيطر، من فوق، على الإعلام المرئي والمسموع، وعلى الصحافة المكتوبة، اليومية والإسبوعية والشهرية والفصلية، وكذلك على دُور النشر، في مختلف المواضيع. مهمته تأمين الدعاية لإسرائيل وللحركة الصهيونية، والدفاع عن مصالحهما. إنه، في نظر العديد من الباحثين الأوروبيين الأشراف، يحتل موقع الصدارة في ميدان التزوير الإعلامي. ثمة كتابات عدة تتناوله بالنقد الشديد بسبب عمليات الهيمنة والإرهاب الفكري والتزوير، ليس آخرها (أي الكتابات) ما جاء في الكتاب الصادر هذه السنة للباحث الفرنسي الشهير باسكال بو نيفاس بعنوان: "المثقفون المزوّرون – الانتصار الإعلامي للخبراء في الكذب". إنه جزءٌ من عمليةٍ مخابراتية أميركية – إسرائيلية معقدة، تناولت الأوضاع في ليبيا وسورية. إصطحبه السناتوران الأميركيان، ماكين وليبرمان، إلى القاهرة في شباط 2011 حيث التحق بهم الليبي محمود جبريل وشخص مجهول جرى التعريف عنه كرئيس للجنة السورية لحقوق الإنسان.
المهم أن برنار هنري ليفي شخص نافذٌ جداً في المنظومة الإسرائيلية – الأطلسية، وهو الذي وضع الإعلام الفرنسي، المرئي والمسموع والمكتوب، في تصرف المعارضات السورية، وخصوصاً الفريق المسلّح الذي يقوم بعملياتٍ إرهابية في الداخل السوري. يكشف الأوراق حيث من المصلحةِ كشفها، ويخفيها حيث من المصلحة إخفاءها.
لا أحد يقدم خدماتٍ مجانية. وآخر اهتمامات منظومة برنار هنري ليفي معرفة ودعم من هو ديمقراطي، بل أين هي مصلحة إسرائيل. لكن الملفت للنظر أن هذه المسألة لا تأخذ الحيّز الذي تستحقه في السجالات والنقاشات السياسية السورية، لا بين صفوف وأجنحة المعارضات السورية ولا حتى في الاتهامات التي يكيلها إعلام النظام ضد المعارضات.
حقاً، إن مشاركة الأستاذ الدروبي، والصمت المدوي الذي يحيط بهذه القضية، لا يشكلان أكثر من رأس جبل الجليد في العلاقة الناشئة بين بعض قيادة حركة الإخوان والحركة الصهيونية وإسرائيل. وهنا نقتضي الدقة والرصانة عدم المزج ما بين قواعد الإخوان والقيادات التي نسجت هذه العلاقة المريبة بواسطة أبرز المطالبين بتوجيه ضربة عسكرية لسورية، نائب رئيس الجمهورية السابق.
ثمة عملية استخباراتية – أمنية مركبّة تجري بعيداً عن أعين الشعب السوري، وحتى بعيداً عن أعين العديد من القيادات، وتصب في اتجاه توفير الظروف والمبررات للتدخل العسكري الأطلسي.
إن من يقيم علاقات مع العدو الإسرائيلي يفقد شرف الوقوف في صفوف المعارضة أو شرف الوقوف في صفوف النظام.
فعلاً، ثمة أشياء تحدث لا يعلم بها سوى القليل القليل من الناس. وهذا ما يحتم الانضمام إلى الحوار وتحويله إلى درع يحمي سورية ويدفع عنها كرة الموت.
8 ـ إلى جانب هذه الحالة المليئة بالألغاز يحدث ما يعزز مخاوفنا. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، يلاحظ أن الموضوع الإسرائيلي يتراجع في أدبيات المعارضات السورية المفترض بها أن تقدم برنامج حكمٍ بعد مشروعها التفصيلي للإصلاح. لم نسمع موقفاً عن العلاقة اللبنانية – السورية، ولا موقفاً مؤيداً وداعماً للمقاومة. إنه حقاً أمرٌ مقلق أن تبدأ في الظهور ملامحُ عصرٍ مذهبيَّ لعينٍ في سورية على غرار المذهبية المنحطة في لبنان. معه قد تسقط كل الدفاعات. من هنا وجوب اقتداء رموز المعارضة القومية العلمانية بتجربتي نلسون مانديلا وليخ ﭭاونسا. فسورية بلد الكفاءات، بل هي مقلع الكفاءات والعباقرة ولا يمكن أن تنزلق في متاهات رسمها الأستاذ ليفي. إن هذا الانفتاح المريب على الصهيونية سيكلف سورية غالياً مثلما كلف ويكلف لبنان. وهذا ما يجب التوقف عنده، وإجراء محاسبة للمسؤولين عنه، والمتسببين به، لكشف خلفياته ودرءِ الأخطار التي ستنجم عنه. فمن الواضح أن ثمة رعاية أطلسية لعصابات الإرهاب التي تقوم بعملية إشغالٍ دائم للجيش العربي السوري، من منطقةٍ إلى منطقة، بقصدِ استنزافه وإنهاكه لتسهيل اقدام إسرائيل على شن حرب ٍ تدميريةٍ خاطفة.
كل الاحتمالات واردة، والمطلوب وقفة رجال مسؤولين يتجاوزون النقيق المطلبي.
بيروت في 6-9-2011
حسن حمادة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق