الثلاثاء، ٢١ شباط ٢٠١٢

سورية المشهد.. الواقع ومرتفعات الاخلاق - د.مكرم خوري مخول

 20- 1- 2012
عن القدس اللندنية
غير عادته وقبل القاء التحية سألني طالب دكتوراة اوروبي قبل بضعة ايام وبارتباك شديد بدا على اسارير وجنتيه :'ما الذي يحصل في سورية'؟ فسألته: اية وسائل اعلام تقرأ وتشاهد؟ قال متسائلا :'لا اعرف تصديق من فيهم'. فذكرته ان قبل خمسة شهور من اندلاع الحرب العالمية الثانية وفي خطاب له يوم 19 نيسان 1939 تطرق وزير الخارجية البريطاني (1938-1940) اللورد ادوارد وود-هاليفاكس (1881ـ 1959) وهو من اهم السياسيين الذين عرفهم حزب المحافظين البريطاني في النصف الاول من القرن العشرين، الى موضوع الدعايةالبروباغندا ودورها في قرع طبول الحرب بهدف الترويج لبعض الادعاءات او الاكاذيب التي من شأنها التغطية عن الاسباب الحقيقية التي تقف وراء الحروب والنزاعات قاصدا المانيا بقيادة ادولف هتلر ووزير اعلامه د. جوزيف غوبلز، حيث قال:
'ان اختراع نظريات جديدة لتبرير سياسات التوسع وطرح ادعاءات عرقية وما شابه لا تصنع الا لغرض التغطية ولتبرير استخدام القوة حيث يتم دوما حجب الحقيقة وطلاءها بالسواد بواسطة الدعاية-البروباغندا العنيفة'. واضفت قائلا للطالب ان تعريف هاليفاكس ورد قبل ان يصرح احد اهم رواد المسرح العبثي (مسرح الابسورد) الفيلسوف والكاتب الروائي الروماني-الفرنسي يوجين يونيسكو (1909-1994) بان هدف البروباغندا بالاساس هو هدم وعي وادعاءات الطرف الآخر. فسوف لا نبتعد كثيرا اذا ما شبهنا ما يجري في عالم السياسة الدولية بتركيبة العمل المسرحي. فنهاك المشهد الذي يراه الجمهور على المنصة الخارجية وهناك كل ما يجري خلف الكواليس. ففي السياسة (وشعبتها الخارجية) - العلاقات الدولية - وفي كل نزاع محلي او اقليمي او عالمي هناك من تلقى عليه مهمة ادارة الازمة وآخر، ادارة 'مشهد الازمة' ومن يكتب السيناريو(هات) ومعه يدرج تقسيم الادوار (الرئيسية والثانوية والامامية والخلفية) الذي يقرره عادة المخرج لكي يقع الاختيار على اكثر الممثلين القادرين على اتقان الدور لكي ينفر في النهاية (التراجيدية لنقل) دم المقتول وتذرف دموع الجمهور . 'اعرف ان القتلى من كل الاطراف هم سوريون، ولكن من المستفيد في الشأن السوري'، اردف الطالب. عندها نصحته بالبحث عن الاجابة بشكل مستقل على امل الاستمرار في الحوار بمناسبة اخرى. افترقنا وكان املي، الغير معلن له على الاقل، الا يأتني بتحليل يعالج مواقف من يساهم بادارة السياسة الخارجية للدول وبالتحديد ملف الازمة السورية بل ان يأتي بتحليل عن موقف الجمهور وتلقيه كل هذا الكم المستفيض من الرسائل الاعلامية ومدى وكيفية تأثره او عدمه من الخطاب السياسي المعلن لهذا الطرف او ذاك عبر بياناته المنتشرة في الفضاء العمومي. فقد عكس ارتباك هذا الطالب حيرته كعضو في شريحة من الجمهور (الضلع الاول) وليس بارتباطه بذلك السياسي (الضلع الثاني) الذي يحاول صناعة القرار او ضحايا القرار (الضلع الثالث لمثلث الصراع) بشكل مباشر او غير مباشر .
'الضلع الثالث الذي يتشكل من اولائك الضحايا الذين يتواجدون في بؤرة الصراع على الارض في كلا الطرفين هم وحدهم من يملك (كل منهما على حدى) اجزاء مختلفة من مكونات واقع الاحداث الجارية وذلك قبل تآطير الواقع وادلجته ونقله مباشرة او مسجلا او محرراً بامانة او تلاعب الى الرأي العام ليصبح مشهدا في مقدوره او عدمه المساهمة في تشكيل الرأي العام. كما ان الجناح الاعلامي (مهنيا كان ام هاويا) الاسرع والاكثر مهارة وصاحب العلاقة والادوات لتوصيل ما يؤطره (بغض النظر اذا ما كان يعكس الواقع بشموليته) لعناصر خارجية تملك وسائل الاعلام وتستفيد مادياً من المشاهد الواردة، هو الذي قد يكسب شوط المعركة (وليس بالضرورة كل الاشواط ) الاعلامية المنقولة بشكل صادق او اقل من ذلك. فالرسائل المنقولة اعلاميا قد تؤثر او لا تؤثر على هذا المشاهد او ذاك. احد المشاهد الذي تم اختيارها في المسرحية الاعلامية التي تستهدف نقل الواقع كما تراه وتريده وسائل الاعلام هو ان يلتصق في ذهن المشاهدين عن مجريات الاوضاع في سورية مشهداً استطاع ولو بشكل جزئي ان يخلق في عقول (ولاسباب تعود الى معدل المهنية الاعلامية او سياسة التحرير) شريحة من الناس صراعا نفسياً داخلياً خلاصته: 'انا مع سورية العروبة والمقاومة وضد تقسيمها وتدميرها، ولكن يؤلمني مشاهدة القتل الجاري في بعض المناطق السورية'. هذه الجملة تسلط الضوء على النظم القيمية للفرد وعواطف اخلاقه والا لما كان ليصدر هذا الحكم المركب. فاطلاق الاحكام ينقسم الى نوعين: السخط والاستنكار او الموافقة والاستحسان لممارسات احد الاطراف او جميع الفرقاء. واحياناً يتحول موقف فرد معين من الجمهور من موقف مستحسن يوم امس الى مستنكر اليوم لأعمال طرف في النزاع وذلك بعد ان قام هذا الطرف بفقدان اخلاقياته نتيجة لتبنيه اعمال ثآر عنيفة تجعله يصنف في ذات الفئة التي تم تصنيف الطرف الذي بادر لإستعمال العنف بداية فيها، مما افقد (في نظر شرائح من الجمهور) الطرف المستقبل للعنف بداية، تفوقه الاخلاقي. فاذا افترضنا (وقد اخترت هذه الكلمة لأنني كمحاضر جامعي وباحث اكاديمي ليس لدي دلائل مادية قاطعة مدقق بها لأحكم بشكل موزون وقاطع) ان فرداًافراداً من احد اجنحة الامن السوري قد بادر في مارس 2011 الماضي الى استعمال طاقة العنف الجسدي المدعوم باسلحة وأدى الى اراقة دماء او حتى التسبب بالعذاب للآخرين، فان تطور رد الفعل من قبل بعض الاطراف (اكرر انه من الصعب معرفة عدد وتبعية الفئات المناوئة والعاملة ضد الحكم في سورية) قد اخذ منحىً تبنى فيه هو الاخر استعمال العنف حيث تم نقله كمشهد مضاد. فاذا كانت النظم القيمية الاخلاقية لبعض الشرائح المجتمعية لاولئك الذين يستنكرون اراقة الدماء من قبل عنف مدعوم من الحكومة السورية، فكيف يمكن ان يقبل الفرد ذاته بمشهد يصور اراقة دماء سوريين اخرين على ايدي اطراف مدعومة بالمال والعتاد من قبل جهات عربية او غربية، دون سخط او استنكار؟. فان اصدار الحكم من قبل الافراد او شرائح من الجمهور عما تقوم به الاطراف في سورية، واطلاق مصطلحات عامة ورائجة مثل 'موافق وصحيح' او 'غير موافق وخطاء' لا يحمل معنى الا اذا ارتبط المشهد بمبدأ 'المنفعة' لأحد الاطراف. ولذلك فالفرد (سورياً كان ام عربياً ام آخر) الذي لا مصلحة مالية له في النزاع ولم يتأثر بشكل مباشر او غير مباشر على الارض مما يجري في سورية ويتبنى بشكل بديهي حزمة من النظم القيمية الاخلاقية التي تقف ضد العنف على كل انواعه والتي تفرز اخلاقاً عاطفية غاضبة ضد اعمال القتل من اي طرف، ليس من الاخلاقي ان يستنكر ما تقوم به الحكومة السورية ويغض الطرف ولا يستنكر ما تقوم به الاطراف الاخرى المدعومة سياسيا وماليا وعسكريا من اطراف خارجية والتي تسبب وتوسع رقعة الآلم والخسائر في الارواح. ذلك لأنه سيختل توازن الموقف الاخلاقي اذا تم تطبيقه بشكل منقوص: فكري ومبدئي في حالة معينة وفكري ومبدئي مقرون بالممارسة والنتائج في حالة اخرى، لأن هذا سيظهر ما يسمى بازدواجية المواقف والمعايير وقد يزيد من حجم الازمة النفسية لذلك المشاهد حيث سيجعله يبحث عن مبررات ويعيش في صراع نفسي كالذي يظهر على خشبة المسرح او الشاشة .
ان تتلقى فئات (من الجمهور) تشاهد وتستمع وتقرأ رسائل مؤيدة او معارضة من او عبر وسائل الاعلام لهذه الطرف او ذاك، وتتبنى المشهد المنقول دون مساءلة او مراجعة او تحقيق والتظاهر بأن احكامها موضوعية غير منحازة فهذا لا يعني بالضرورة ان هذه المواقف 'الموضوعية' هي الصواب. فمن يراقب ويسجل مستعملاً مناهج البحث العلمي (الكمي والنوعي) يصل الى نتيجة تستدعي ما سآله الطالب المذكور اعلاه: 'لا اعرف تصديق من فيهم'. فالمسآلة هي ليست فقط 'من يصدق'، بل ان المسآلة تعود هنا فيما اذا كانت نظمك الاخلاقية، انت كمستهلك للمادة الاعلامية، مع استعمال العنف وتبرير اراقة الدماء بشكل من الاشكال ام لا، وذلك قبل ان تعرف الحقيقة من التلاعب في رواية هذا الطرف او ذاك؟
لان وجود الاراء المختلفة بما يتعلق بالصواب والخطأ، هو ما يسلط الضوء على الفرق العاطفي بين البشر والحيوانات، ويتيح للآراء ان تكون عرضة للتغير عبر حيازة كم اكبر من المعلومات ومن اكثر من مصدر واحد والقيام بالمقارنة فيما بينها. هذه هي العملية التي من شأنها ان ترتقي بنا كجمهور مشاهدين الى درجة اعلى من الفهم وتقييم النزاعات السياسية الدموية حتى لا تتحقق الخدعة الدعائية بسهولة نسبية ولكي لا تتم عملية حجب الحقيقة وطلاءها بالبروباغندا السوداء التي ذكرها هاليفاكس.

' اكاديمي جامعة كيمبريدج- بريطانيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق