الأحد، ١٣ تشرين الثاني ٢٠١١

الصراع على سورية - ميلاد السبعلي

الصراع على سورية

ميلاد السبعلي
Sunday, November 13, 2011
أما وقد كشفت الجامعة العربية عن دورها المستور، وأعلنت قراراتها أمس بتجميد مشاركة الوفد السوري الرسمي في اجتماعات الجامعة ومنظماتها المختلفة، فقد إنتقل الصراع على سورية إلى مرحلة جديدة لا بد من فهمها بعمق لمعرفة كيفية المواجهة.

كان من واضح من البداية وقوف معظم الدول العربية في صف الدول الغربية، إما لخوفها على انظمتها، أو لإرتباطها حتى العمالة بالمشروع الأميركي في المنطقة. وقد جاء تصويت الأمس مفاجئاً للبعض خاصةً بعد التطمينات الإعلامية بأن هذا الموضوع مستبعد حالياً وأن ما يجري البحث به هو وضع آليات لتنفيذ المبادرة العربية. لكن المتعمق في درس الأمور وتحليلها يلحظ الإرتباك العربي والأمريكي من قبول سورية بالمبادرة العربية، بعد أن كانوا يتوقعون رفضها لها، مما يسهل عليهم تدويل المسألة وأخذها إلى مجلس الأمن. ويمكن القول بأن الغرب والعرب والمجلس الوطني السوري بدأوا بالتشكيك بمصداقية قبول النظام الشامي بالمبادرة والتأكيد بأنه لن ينفذها منذ اللحظات الأولى للقبول، كما أن النظام لم يتوانَ عن تقديم الأسباب لهم لتعزيز هذا الإتهام.

وقد اعلنا في الحزب السوري القومي الإجتماعي منذ ظهور المبادرة العربية أنها إلتفاف على المحاولات الروسية لتشجيع النظام والمعارضة على تنظيم حوار جدي يؤدي إلى انفراجات في الأزمة، ومحاولة أمريكية للإلتفاف على الفيتو المزدوج الروسي الصيني في مجلس الأمن لمحاولة إنتزاع قرار عربي ترتكز إليه أمريكا وحلفائها لاتخاذ اجراءت دولية قد تتصاعد إلى حد التدخل العسكري أو الحظر الجوي حتى لو بدون قرار لمجلس الأمن.

ولو عدنا إلى تحليل طبيعة الصراع على سورية، وإهتمام الغرب به إلى هذا الحد، مع أن حالات مشابهة في اليمن والبحرين لم تحظَ بهذا الإهتمام والتركيز، لوجدنا أن السبب الرئيس في ذلك هو الصراع الاستراتيجي العالمي الذي تحاول الولايات المتحدة خوضه في وجه الصين وروسيا والهند. فأمريكا منذ زمن الإتحاد السوفياتي ترتكز في استراتيجيتها للصراع العالمي على نظرية جيوسياسية وجيواستراتيجية تقول بضرورة تفوق الحضارات البحرية المتمثلة بأمريكا وأوروبا واليابان على الحضارات البرية خاصةً في الفضاء الاوراسيوي الممتد من الصين والهند إلى روسيا. وقد حاولت أمريكا تطويق هذا الفضاء بقواعد أمريكية على أطرافه لمحاصرته. وعند سقوط الإتحاد السوفياتي، نظّرت مراكز الابحاث الغربية لتفوق الحضارات البحرية وديناميتها مقابل جمود وبطء الحضارات البرية. غير أن صعود قوى إقتصادية كبرى في ظل النظام الليبرالي الرأسمالي العالمي ذات القطب الأوحد عسكرياً، وضع تفرد أمريكا بسياسة العالم أمام تحديات مشاركة الاقتصادات الناشئة لها في القرارات الدولية، كمطالبة دول مثل ألمانيا والبرازيل والهند واليابان وغيرها بمقعد دائم بمجلس الأمن. فجاء الرد الأمريكي إنقلاباً على العامل الإقتصادي عبر نظرية الحروب الاستباقية والحرب على الإرهاب، لقلب الطاولة على الشركاء الاقتصاديين وإعادة تكريس التفوق الأمريكي وبالتالي أحادية قيادتها للقرارات الدولية. وقد ترافق ذلك مع إدخال العامل الحضاري من خلال مقولة صراع الحضارات. أدى ذلك إلى إحتلال أمريكا لمناطق في قلب الفضاء الاوراسي في أفغانستان والعراق، بهدف السيطرة على مصادر الطاقة من جهة، ومحاولات عرقلة الصعود الإقتصادي للصين والهند وروسيا من جهة أخرى، عبر إختلاق الحروب والمشاكل على حدودها و في مداها الطبيعي. غير أن عاملاً آخر طرأ ولم يكن في الحسبان، وهو العامل الانساني المقاوم للإحتلال الأمريكي الذي أنهك الإمكانات والميزانية الأمريكية وأطال أمد حروبها ومجهودها العسكري، بحيث فاقت كلفة الإحتلال كل التوقعات .

هذا ما دفع أمريكا لتعديل استراتيجيتها ومحاولة خلق حروب محلية تديرها هي من دون الحاجة إلى انخراط الجيش الأمريكي مباشرةً. فكان الصراع المذهبي السني الشيعي خير وسيلة، مما يؤمن الاصطرع المحلي في ظل إنسحاب الجيوش الأمريكية من العراق وأفغانستان. كما يؤمن هذا الصراع سبباً رئيسياً لتدمير كبير في إيران ومنطقة الخليج، يفسح في المجال أمام مشاريع عملاقة لإعادة البناء تلتزمها الشركات الأميركية والغربية، مما يعيد إنعاش الإقتصاد الأمريكي المترنح، على حساب عرب النفط، خاصةً إذا استطاعت أمريكا من رفع سعر النفط إلى حدود الـ 200 دولار، مما يزيد من واردات النفط من جهة، ويؤخر نمو الدول غير النفطية، خاصة الصين والهند والبرازيل وأوروبا من جهة أخرى.

وحتى ينجح هذا التوجه، كان لا بد للاميركان على مدى وجودهم في العراق من غض النظر عن النفوذ الإيراني المتنامي هناك، حتى تستطيع أمريكا تكبير الخطر الإيراني للخليجيين، لحرف خوفهم من إسرائيل إلى إيران، وتخويف العرب من الهلال الشيعي، مقابل إعطاء دور الرافعة السنية لحليفها التركي. وهذا ما يعبئ العرب ضد إيران من جهة، ويهيئ لحرب سنية شيعية يمولها العرب وتقوم بها أمريكا وحلفائها في المنطقة من إسرائيل إلى تركيا، يكون مسرحها الخليج.

لكن تهيئة ظروف هذه الحرب يستلزم أولاً نزع مخالب إيران في محيط إسرائيل، عبر ضرب الشام أو تحييدها، وعزل حزب الله وحماس. وقد كان عزل حماس هو الأسهل عبر اجتذابها إلى المعسكر السني. وبدأ إستغلال تحرك الشارع السوري عبر عروضات متكررة على النظام السوري، بدءًا باغرائه بالدعم الخليجي وإبقاء النظام البعثي مقابل قطع أو تشذيب علاقته بإيران، إلى تخليه عن حزب الله وضبضبته مقابل إعادة جزء من نفوذه في لبنان، مترافقاً مع نوع من أنواع الديمقراطية التوافقية الطوائفية في الشام، مما يدخل حلفاء أمريكا من المعارضة السنية إلى قلب النظام ويضمن عدم جنوح النظام إلى مواقف تضر بالسياسة الأمريكية.

هذا ما كان يقصده الغرب عندما كان يطالب الرئيس الأسد بقيادة التغيير أو التنحي. وهذا ما يزال يطالبه به حتى اليوم برغم كل محاولات العزل والحصار، وهو ما رفضه ولازال يرفضه الرئيس الأسد. ففي اللحظات التي يقبل فيها الرئيس أو النظام بهذه الشروط، يعود شرعياً ومقبولاً عند الغرب.

ولا بد هنا من تظهير المفارقات التالية:

1- إن موضوع الإصلاحات التي عاندها النظام، لم تكن يوماً هي الأولوية في الأجندة الغربية. لا بل أن الإصلاح الحقيقي كان يمكن أن يحصن المجتمع ويقي النظام من خطر تسلل الغرب إلى داخل المجتمع السوري ودعم وتمويل وتسليح فئة من الشعب أدخلت النظام في لعبة دم داخلية لم يعد قادراً معها على الحسم. من هنا كانت مطالبتنا للنظام بتسريع الإصلاح الداخلي منذ بدء التحرك الشعبي لتحصين الداخل، واعلنا وقتها أن رافضي الإصلاح في الداخل انما يخدمون بطريقة أو أخرى الأجندة الخارجية.

2- إن المعارضة الخارجية المرتبطة بالأجندة الغربية تصبح خارج اللعبة إذا قبل النظام بما تطالبه أمريكا به. فهذه المعارضة إذن  تطالب النظام بمطالب إصلاحية وفي نفس الوقت تتمنى أن لا يستجيب لها. لذلك هي ترفض أي حوار مع النظام حتى لو قبل بكل شروطها! أملها الوحيد هو أن يبقى المتطرفون في النظام يرفضون كل المطالب. وهنا نرى تحالفاً خفياً بين المتطرفين في النظام والمعارضة المرتبطة بالخارج على السير بالبلاد إلى الخراب. بينما العقلانيون في المعارضة والنظام غير مرغوبين لا من قبل الغرب ولا من قبل عتاة المدافعين عن مكاسبهم ومصالحهم الضيقة في النظام!

3- إن أتباع اميركا في الجامعة العربية، خاصةً دول مجلس التعاون الخليجي، الذين يشكلون رأس حربة في الضغط على الشام، لا يدركون أنهم سيكونون الضحية سواء سقط النظام الشامي أم بقي وقبل بالإملاءات الأمريكية، لأن النتيجة في الحالتين، هي كف يد إيران من المشرق العربي والمتوسط، وبالتالي اراحة إسرائيل للتهيئة لخوض معارك طاحنة في الخليج ضد إيران سوف تدمر دولهم وتعيدهم إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، املها الوحيد لإعادة النهوض هو بمشروع "ماريشال" جديد تنفذه الشركات الأمريكية بأموالهم لإعادتهم إلى الخريطة صاغرين للإرادة الأمريكية. أما في حال صمود النظام الشامي على سياساته، وازدياد النفوذ الإيراني في المنطقة بدعم روسي-صيني-هندي، فهم سيتحولون إلى دول غير مستقرة تبتزها أمريكا وتحولها إلى مسرح لحرب باردة بين المحور الغربي والمحور الاوراسي. 
في ظل هذا الواقع الجيوسياسي العالمي، يصبح الصراع على الشام هو في الحقيقة صراع على سورية الطبيعية كلها، من أجل ربط تركية بالخليج، كمقدمة لإنهاء إيران والربط مع منطقة النفوذ الأمريكي في باكستان وأفغانستان. بذلك تكون أمريكا قد استولت على الشرق الأوسط الكبير من المغرب إلى أفغانستان، الذي بشر به جورج بوش وكوندليزا رايس وتبنى تنفيذه اوباما وكلينتون. وتكون بذلك أمريكا طوقت الفضاء الاوراسي من الغرب والجنوب الغربي، وسيطرت على مصادر الطاقة الأساسية في العالم، وحلت مشاكلها المالية المعقدة، وأصبحت في موقع يمكنها من التحكم بقدرة الصين وروسيا والهند على النمو، واستعادت بالتالي قيادتها للعالم لخمسين سنة قادمة. 

في المقابل، تسعى روسيا والصين والهند للدفاع بكل الوسائل عن مصالحها الإستراتيجية التي يستهدفها المشروع الأمريكي، من خلال الدفاع عن النقطة الساخنة في الشام، حتى لا يندفع المشروع الأمريكي كأحجار الدومينو في حال سقوط الشام، لينتقل إلى الخليج، ومن ثم إلى وسط آسيا.

أما في الشام، حيث قاتل النظام من زاوية ضيقة جداً هي زاوية الدفاع عن المكاسب والامتيازات، فالحل ليس بالتعبئة العاطفية والغرائزية وبتخوين أو تسخيف كل المعارضين أو كل من لا يسير بخطة النظام. فلا شك أن هناك بعض من في المعارضة الخارجية خاصةً يركب الموجة الغربية لقلب النظام وتقديم التنازلات المسبقة في الموقف القومي إلى أمريكا وإسرائيل، مقابل ايصاله إلى الحكم. لكن أيضاً لا شك أن هناك تغييرات جذرية وبنيوية عميقة لا بد من إحداثها بأسرع وقت، لإنتاج دولة مدنية ديمقراطية قوية ناهضة محصنة من الداخل، تستقوي بالشعب لا عليه، لتستطيع تحمل وزر الموقف القومي.

إن ما حصل حتى الأن، والأخطاء والمتكررة التي عالج بها النظام الحالي الأزمة، إن دل على شيء، انما يدل أن النظام الإستبدادي الاقلوي المكبل بالمصالح والفساد والتسلط والتخلف، قد يستطيع في الظروف العادية أن يتخذ موقفاً قومياً صحيحاً وسياسة خارجية جيدة، لكنه لا يستطيع المحافظة على هذا الموقف في الأزمات الحادة التي تحتاج إلى السرعة والدقة والدينامية والمبادرة. وهذه صفات لا يمكن أن يتحلى بها أي نظام إذا لم يكن متصالحاً مع شعبه، ومحصناً به، من خلال تأمين الحريات الحقيقية والحقوق الطبيعية والتنمية الحقيقية المتوازنة لكافة المواطنين. عندها فقط، لا تستطيع المؤامرات الخارجية النفاذ إلى الداخل وخربطة الوضع وارباك الدولة.

من هنا كان موقفنا منذ البداية، أن مصلحة سورية أهم من مصلحة الحكام، وأهم من النظام نفسه، وأن على الرئيس قيادة الحراك الشعبي وأن يكون هو سباقاً إلى الإصلاحات، حتى لو أدى ذلك إلى تنازلات داخلية للشعب، كما ينظر بعض متطرفي النظام إلى الإصلاح. فالتنازل للشعب أفضل بكثير من التنازل للخارج، أو من خسارة كل شيء.

في هذا الظرف الصعب، لا يسعنا إلا أن نكون في مواجهة المشروع الغربي، مؤكدين مجدداً مطالبتنا للنظام بالتغيير الفوري، وتحصين الوضع الداخلي، لإنقاذ ما يمكن انقاذه ومواجهة هذا التنين الجديد.

"نحن امة كم من تنين قد قتلت ولن يعجزها هذا التنين الجديد" - سعاده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق