في البعد غير المصري لما يجري
في مصر..
د. ابراهيم علوش
برزت مجموعة مفارقات في خطوط
الاصطفاف حول المتغيرات الأخيرة في مصر، المؤدية للإطاحة بحكم الإخونجة، كان منها:
1)
اختلاف موقف القيادة السعودية عن موقف الولايات المتحدة
الأمريكية والدول الغربية عامةً،
2)
اختلاف موقف القيادة السورية عن الموقف الرسمي الإيراني
الذي اعلن رفضه لتدخل الجيش في السياسة،
3)
انزعاج الحكومات الغربية، وعلى رأسها حكومة الولايات
المتحدة، من دور الجيش المصري، الداعم للحراك الشعبي، فيما كان الافتراض السائد أن
قيادة الجيش أقرب لها من جماعة الإخوان المسلمين، على ما زعموا!
ولعل مفتاح تفسير مثل هذه المفارقات
يبدأ من تثبيت أهمية وزن مصر الجغرافي-السياسي في الإقليم. فمصر قطر عربي مركزي، وعليه فإن سيرها، ولو قيد
أنملة، بأي اتجاه ومسار تاريخي، إخواني أو ناصري أو ليبرالي، ينعكس فوراً على كل الإقليم، ولو أن بعض اخواننا
المصريين لا يزالون يتعاملون للأسف كأن مصر كوكب معلق لوحده في الفضاء... أي بدون
إدراك للروابط العميقة التي تربط مصر بمحيطها، وانعكاس مثل تلك الروابط على المشهد
السياسي في مصر وخارجها.
المهم، إن موقف القيادة
السعودية المؤيد بحماسة ظاهرة للإطاحة بحكم الإخونجة في مصر لا يمكن فصله عن
صراعها مع الإخونجة في الإقليم، والذي انعكس مؤخراً على سبيل المثال بما يلي: أ –
الإطاحة بحمد في قطر، ب – محاكمات الإخونجة في الإمارات، ج – تقليم أظافر الإخونجة
ضمن أطر المعارضة السورية.
والسؤال الاعتراضي، الذي يطرح
نفسه بديهياً هنا: ما الذي قدمته القيادة السعودية مقابل تعزيز وضعها على حساب
القيادة القطرية في الإقليم؟ وقد أجابني
رفيق في لائحة القومي العربي، عندما طرحت هذا الكلام أمامه: الثمن سيكون من حساب
القضية الفلسطينية، وليس بمعزل عن تصعيد جولات كيري ومحاولات إعادة إحياء
المحادثات السلمية بين السلطة والكيان الصهيوني، خاصة بعد فقدان حماس لقواعدها
الإقليمية في قطر ومصر، لكن هذا موضوع أخر، فخطوة مصر جاءت على غير ما يريد الطرف
الأمريكي-الصهيوني، وليس بالتنسيق معه كسابقاتها، فحسابها أكبر بكثير، ومختلف
قليلاً، ويعكس قدرة دولة مركزية مثل السعودية على مخالفة الولايات المتحدة في بعض
المفاصل، مؤقتاً، وبشكل مشروط...
إذن، من البديهي أن سيطرة
الإخوان على الحكم في مصر، ضمن سياق اتفاق إقليمي مع الأمريكان لمواجهة صعود روسيا
والصين، كان يتضمن حسب قوانين الجغرافيا السياسية تهميشاً للدور السعودي الإقليمي. وحسب مثل هذه المعادلة، فإن تأييد القيادة
السعودية للإطاحة بالإخوان في مصر سيترافق بمقدار أكبر من الشدة مع رفض اتخاذ مصر
لمسار تحرري مستقل سيهمشها تاريخياً، وليس فقط حسب قوانين الجغرافيا السياسية.
والأرجح أن القيادة السعودية
سوف تحاول تسويق ليبراليين تبع للإمبريالية في مصر، كبديل للإخوان، تماماً كما
تفعل في حالة المعارضة السورية. كما يرجح
تفعيل الجماعات الإرهابية في مصر في حالة اتخذت مصر مساراً تحررياً مستقلاً، تماماً
كما يحدث في سورية، والزومبجيون، في الحالتين السورية والمصرية، جماعات قابلة للاستهلاك
البشري والسياسي. وبدون إدراك مثل تلك الحدود
الجغرافية السياسية والعقائدية لتأييد القيادة السعودية للإطاحة بالإخوان في مصر،
لن نستطيع أن نفهم لماذا تستمر وسائل الإعلام الممولة سعودياً بالتحريض على سفك الدماء
والتدخل الدولي في سورية...
وهو ما يقودنا لاختلاف
الموقفين السوري والإيراني إزاء ما يجري في مصر.
من البديهي أن الإطاحة بحكم
الإخونجة في مصر شكل ضربة قاسية لأطراف وقوى رئيسية في المعارضة السورية المسلحة،
تضاف إلى ضربة الإطاحة بحمد في قطر، واهتزاز الأرض تحت اقدام الإخونجة في تركيا،
ولذلك فإنه تطور يصب مباشرة في مصلحة القيادة السورية... إلى أن تسير مصر باتجاه
ليبرالي تابع للإمبريالية، سيضر بسورية، ولكن ليس أكثر من حكم الإخونجة، أو اتجاه نقيض
تحرري مستقل، سيفيد سورية، خاصة في المدى المنظور المتعلق بدعم العصابات المسلحة
في سورية وتغطيتها سياسياً.
المفصل هنا أن ما جرى فتح
إمكانية، مجرد إمكانية، عودة مصر لمسار تحرري مستقل، وهو مسار يقود بالضرورة
لاستعادة وزن مصر العربي والأفريقي والإسلامي والعالمي، وهذا يرعب الأعداء، ومنه
تركيا التي تخاف من عودة مصر للميدان بصفتها التحررية المستقلة العروبية، لكنه
كذلك يرعب بعض الأصدقاء.
فاحتمالية عودة مصر للميدان
تعني أن بديل الطرف الأمريكي-الصهيوني في المنطقة لن يكون إيران، ولو نشأ تحالف مع
إيران، لن تكون إيران قائدته، لأن مصر هي مصر.
وليكن واضحاً أن موقف القيادة السورية الإيجابي من هذه الاحتمالية لا يتعلق
فقط بمصلحة آنية هي محاصرة العصابات المسلحة سياسياً في الإقليم، بل يتعلق أيضاً
بحقيقة كون القيادة السورية قيادة ذات نزوع وتوجه قومي عربي، وبمقدار ما يصح هذا
القول، يصح أيضاً أن بعض الحلفاء لا يريدون أيضاً لسورية أن تخرج قوية معافاة مئة
بالمئة من هذه الأزمة، ويصبح مفهوما لماذا تستمر العلاقة مع الإخوان المسلمين
واحتضان مرسي في طهران. ومن البديهي أن
الأزمة التي تعيشها سورية اليوم، واستحقاقات التحالف الضروري مع إيران بالنسبة
لسورية، لا يترك لها حرية نقد بعض المواقف الإيرانية (وحتى الروسية) الرثة إزاء الوضع
في سورية، وهو الأمر المفهوم تماماً ضمن الوضع الحالي...
والحقيقة هي أن العامل
الرئيسي في موقف إيران السلبي من الإطاحة بحكم الإخونجة في مصر هو أولوية المصلحة
القومية الفارسية في السياسة الإيرانية في الإقليم. نقطة على السطر. وهي المصلحة التي جعلت إيران تتقاطع مع
الولايات المتحدة في تدمير العراق، وجعلتها تعتبر، في نفس الوقت، ضمن طموحها الإمبراطوري،
أنها البديل الطبيعي للطرف الأمريكي-الصهيوني في الإقليم، ومن هنا ازدواجية
السياسة الإيرانية التي تصبح مفهومة فقط إذا بدأنا من أولوية تحقيق المصلحة
القومية الفارسية في الحالتين، كبديل للقومية العربية، وللطرف الأمريكي-الصهيوني
في الإقليم، في آنٍ معاً.
ولذلك قلنا دوماً في
"لائحة القومي العربي" أن موقفنا من إيران، ينطلق من اعتبارها جاراً
تاريخياً صراعنا معه صراع حدود، لا صراع وجود، وهو جار يحتل لنا أرضاً، ويسعى
للتمدد، ولكن التناقض الرئيسي يبقى مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، ويصبح التناقض
مكشوفاً مع إيران، في المرحلة التاريخية الراهنة، بمقدار ما تتقاطع مع الطرف
الأمريكي-الصهيوني، كما في حالتي أفغانستان والعراق، والآن مصر... ويضعف تناقضنا
معها بمقدار ما تتخذ خطاً مناقضاً لمصلحة الطرف الأمريكي-الصهيوني كما في سورية
اليوم، وفي لبنان وفلسطين. ولا نزال مدركين
تماماً لضرورات التحالف في سورية، واستحقاقاته، وضوابطه، لكننا لن ننسى تدمير
العراق، والجزر الثلاث، وعربستان... أبداً.
فنحن ننطلق في النهاية من مقياس
أول: مصلحة الأمة، ومن هذا المنطلق أيضاً ندين الطائفية بكافة أشكالها، سواء كانت
سنية أو شيعية أو مسيحية أو قبطية أو غيرها.
بالعودة إلى موقف حكومة
الولايات المتحدة من دعم الجيش للحراك الشعبي في مصر، فإن علينا تذكر إرث عبد
الناصر، الذي لم يبدأ ناصرياً، بل بدأ وطنياً مصرياً ساعياً لتصنيع مصر
واستقلالها، لكن قوانين الجغرافيا السياسية قادته لأن يصبح قومياً عربياً، ومصر،
بحكم وزنها، لا تستطيع أن تمارس دورها العربي إلا عبر خطاب قومي عربي،
فالأيديولوجيا تتبع الجغرافيا السياسية، أكثر بكثير مما تتبع الجغرافيا السياسية
الأيديولوجيا.
المهم، خطوة الجيش المصري
جاءت خارج السياق، وهذا يثير الرعب في أوصال الدول الغربية، لا لأن ثمة انتهاكاً لدور
الجيش في الدولة المدنية، بل لأن تلك الخطوة، إن لم تتبعها فوراً عملية تسليم
السلطة لعملاء الطرف الأمريكي-الصهيوني من أمثال البرادعي وعمرو موسى، فإنها سوف
تتبع مساراً ناصرياً بشكل موضوعي، أي أن مصر، ككل قطر عربي، ولكن أكثر من أي قطر
عربي، لا يمكن أن تكون نامية ومستقلة إلا في سياق مشروع قومي عربي.
ولنلاحظ أن البرادعي عين
نائباً للرئيس عدلي منصور للعلاقات الخارجية، وهو ما يفيد بأن الضباط المصريين
يريدون تأجيل المواجهة مع الغرب، بدون إعطاء البرادعي صلاحيات في الداخل...
مفهوم! لكن هذا ليس إلا شراءً للوقت، لا
ضير فيه، ما دام الجميع يدرك أن الجميع يراقب، وأن الأشهر القادمة ستحمل إما العودة
للتبعية والفقر والتطبيع والضعف وانعدام الوزن بثوب ليبرالي، وإما العودة للمسار
الوطني التحرري، المفضي بالضرورة للقومية العربية، وهو الدور الذي لا يمكن أن
يلعبه إلا الجيش المصري، ما دامت لا توجد في مصر فعلياً قوى ناصرية حقيقية إلا
بالشعار.
فإذا تطورت الأمور في مصر على
المسار الوطني التحرري، وخرجت سورية من أزمتها في الآن عينه، فإن سنوات النهوض
العربي المقبلة ستجعل الخمسينيات والستينيات تبدو كسنوات التسعينيات الرمادية أو
أكثر..
وبجميع الأحوال، يبقى الرهان
على ذلك الحصان الأسود الذي يندفع إلى مقدمة السباق الإقليمي من الخلف بسرعة سبق
أن أثارت الإعجاب كثيراً من قبل: الجيش المصري.
فهل يرتقى إلى مستوى التحدي؟
للمشاركة على الفيسبوك:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق